يُعد تقرير المصير ضمن إطار علم النفس مفهوماً مهماً. ويشير إلى قدرة كلّ فرد على تحديد خياراته وإدارة حياته الخاصة. وتلعب هذه القدرة دوراً جوهرياً في الصحة النفسية وجودة الحياة.
يسمح تقرير المصير للأفراد أن يشعروا بأنهم يسيطرون على خياراتهم وحياتهم وله تأثيرٌ أيضاً على الدافع. إذ يشعر الأشخاص بدافع أكبر لاتخاذ خطوات جدية عندما يشعرون أن ما يفعلونه سيؤتي بثماره.
تم تطبيق مفهوم تقرير المصير على نطاق واسع من مجالات الحياة بما فيها التعليم، العمل، التربية، الرياضة والصحة. تُظهر الدراسات أن امتلاك قدرة عالية على تقرير المصير يمكن أن يعزّز النجاح في مختلف ميادين الحياة.
ما هي نظرية تقرير المصير؟
تشير نظرية تقرير المصير (Self-Determination Theory) إلى أن الأشخاص يندفعون باتجاه النمو والتغيير انطلاقاً من حاجات فطرية نفسية وعالمية.
تُبين هذه النظرية أن الأشخاص قادرون على تقرير مصيرهم عندما تتم تلبية حاجاتهم لـ الكفاءة (competence)، التواصل (connection) والاستقلالية (autonomy).
يلعب مفهوم الدافع الجوهري (الفطري) أو الانخراط في الأنشطة للحصول على مكافآت للسلوك ذاته، دوراً مهماً في نظرية تقرير المصير.
انبثقت نظرية تقرير المصير وتطورت من عمل عالمَي النفس إدوارد ديسي (Edward Deci) وريتشارد ريان (Richard Ryan) وهما أول من طرح هذه الأفكار عام 1985، ضمن كتاب بعنوان “تقرير المصير والدافع الجوهري في السلوك البشري”.
إذ قاما بتطوير نظرية الدافع والتي تشير إلى أن الأفراد يميلون إلى الانقياد بسبب حاجتهم للنمو وتحقيق المنفعة.
الفرضيتان الأساسيتان للنظرية
تقود الحاجةُ للنمو سلوكَ الفرد: تشير الفرضية الأولى لنظرية تقرير المصير إلى أن الأفراد يميلون بشكل فعال باتجاه النمو والتطور. تُعد السيطرة والتفوق على التحديات وخوضُ تجارب جديدة أموراً أساسيةً في تطوير إحساس متماسك ومترابط بالذات.
الدافع المستقل أمرٌ مهم: بينما تدفع المكافآت الخارجية الناسَ للتحرك والعمل، مثل المال، الجوائز، الشهرة والقبول، وهي دافع خارجي (extrinsic motivation). تركّز نظرية تقرير المصير في الأساس على المصادر الداخلية للدافع، مثل الحاجة للحصول على المعرفة والاستقلالية وهي دافع داخلي (intrinsic motivation).
وفقاً لنظرية تقرير المصير، يحتاج الناس للشعور بما يلي لتحقيق النمو النفسي:
- الاستقلالية: يحتاج الناس للشعور بالسيطرة على سلوكهم الفردي وأهدافهم الشخصية. يلعب هذا الإحساس بالقدرة على اتخاذ خطوات جديّة ومباشرة تُثمر عن تغييرات حقيقية دوراً كبيراً في مساعدتهم على الشعور بالقدرة على تقرير المصـير.
- الكفاءة: يحتاج الناس إلى إتقان المهام وتعلّم مهارات مختلفة. عندما يشعرون بأنهم يمتلكون المهارات المطلوبة للنجاح، فإنهم على الأرجح يتجهون إلى القيام بالأفعال التي ستساعدهم على تحقيق أهدافهم.
- الروابط والتواصل: يحتاج الناس إلى تجربة الإحساس بالانتماء والتعلق بالآخرين.
تخيّل أن شخصاً ما قد فشل في إتمام مشروعٍ مهم في عمله؛ إذا كان هذا الشخص على مقدرة عالية من تقـرير المصير، فسوف يعترف بتقصيره انطلاقاً من إيمانه بأنه يستطيع تفادي المشكلة والقيام بخطوات فعالة لتصحيح الخطأ الحاصل.
وإذا كان هذا الشخص ذا قدرة منخفضة على تقرير المصـير، فبدلاً عما سبق، سيقوم بالبحث عن أمور أخرى ليحمّلها مسؤولية الخطأ. وسيخلق الأعذار ويلقي باللوم على غيره أو يرفض الاعتراف بالخطأ.
ربما يكون الأهمّ من ذلك أن هذا الشخص لن يشعر بالاندفاع لإصلاح الخطأ الحاصل. بل من الممكن أن ينتابه إحساسٌ بالعجز عن السيطرة على الموقف معتقداً بأن لا شيء يمكن فعله قد ينفع حقاً.
آلية عمل نظرية تقرير المصير
من المهم إدراك أن النمو النفسي الذي تطرحه نظرية تقرير المصـير لا يحدث بشكل تلقائيّ ببساطة. على الرغم من أن الأشخاص يميلون باتجاه هذا النمو، إلا أنه يتطلب دعماً وتعزيزاً مستمرين.
بيّن كلّ من ريان وديسي أن النزعة إلى كون الفرد إما فاعلاً (proactive) أو غير فاعلٍ (passive) هو أمرٌ خاضعٌ لتأثير الظروف الاجتماعية التي ينشأ ضمنها الفرد. إذ يشكل الدعم الاجتماعي أمراً حيوياً هنا.
من خلال علاقاتنا الاجتماعية وتفاعلاتنا مع الآخرين نستطيع إما تعزيز أو عرقلة حياة الرفاه وتطوير الذات.
العناصر المطلوبة للتطور
على الرغم من أهمية الدّعم الاجتماعي، إلا أن هناك عوامل أخرى يمكن أن تساعد أو تعيق العناصر المطلوبة للتطور:
أولاً، يمكن للدوافع الخارجية أحياناً أن تقلّل من القدرة على تقرير المصـير
وفقاً لـ ديسي، فإن تقديم مكافآت خارجية لسلوك مدفوع من الداخل للتوّ يمكن أن يقوّض من استقلالية الفرد. وعندما يصبح السلوك خاضعاً لسيطرة المكافآت الخارجية، يبدأ الفرد تدريجياً في الشعور بفقدان السيطرة على سلوكه الفردي ويزول دافعه الداخلي.
ثانياً، يمكن أن تعزّز ردود الأفعال الإيجابية القدرةَ على تقرير المصـير
بيّن ديلسي أيضاً أن تقديم التشجيع وردود الأفعال الإيجابية بشكل مفاجىء على أداء الفرد في مهمة ما يمكن أن يرفع من درجة قدرته على تقرير المصـير. يساعد هذا النوع من رد الفعل الأفراد على الشعور بكفاءة أكبر والتي تشكّل بدورها سراً من أسرار حاجات التطوير الذاتي.
سلوكيات تقرير المصير مقارنةً مع سلوكيات عدم القدرة على تقرير المصير
على الرغم من تصوّر الدافع الداخلي والدافع الخارجي على أنهما منفصلان ومختلفان عادةً، إلا أن سلوك الفرد هو سلوكٌ معقد.
ونادراً ما ينقاد الإنسان وراء دافع وحيد فقط، إذ يلجأ الأفراد أحياناً إلى الاعتماد على مصادر دوافع متعددة في سعيهم لتحقيق أهدافهم.
مثلاً، إذا كنت تتدرّب للمنافسة في ماراثون ما، فمن الممكن أن يكون دافعك لهذا التنافس خارجياً ويمتثّل بالرغبة في كسب استحسان وقبول الآخرين. إضافةً إلى الدافع الداخلي المتمثّل بالرضا والارتياح الذين تشعر بهما نتيجة القيام بهذا النشاط في حد ذاته.
من المفيد جداً النظر إلى الدافع على أنه مسارٌ متصلٌ بين سلوكيات تقرير المصـير وسلوكيات عدم القدرة على تقرير المصـير. بدلاً من الاعتقاد بأن ما يقودها هي العوامل إما الداخلية أو الخارجية. فمثلاً:
تتجه سلوكيات تقرير المصـير البحتة لأن تكون مدفوعة بعوامل داخلية، ويقوم بها الفرد في سبيل المتعة، المصلحة أو الشعور بالرضا من الحدث ذاته.
يوجد في المقابل، هناك سلوكيات عدم القدرة على تقرير المصـير والتي يؤديها الفرد لأنه “يجب عليه ذلك“، وفي هذا الحد الأقصى من المسار يفقد الفرد السيطرة على السلوكيات تماماً.
تميل السلوكيات في معظم الأحيان إلى التوضع في مكان ما وسط المسار. إذ توجد دائماً كمية متفاوتة من الدوافع الخارجية والتي يمكن أن تغذّي وتدعم درجةً معينة من الدوافع الداخلية أيضاً.
يمكن أن ينخرط الأفراد في أفعال وتصرفات ناجمة عن شعورهم بامتلاك درجة ما من السيطرة الشخصية، وبأن هذه الأفعال تتوافق في النهاية مع شيء مهم مرتبط بمفهوم الذات.
لا تكون أغلب السلوكيات فعليا سلوكيات بحتة من ناحية تقرير المصير أو عدم القدرة على ذلك، فغالباً تستند الأفعال إلى درجة معينة من القدرة على تقرير المصير والتي يمكن أيضاً أن تتأثر بالدوافع الخارجية.
تطبيق نظرية تقرير المصير ضمن نطاق العمل
يمكن أن يلعب مفهوم تقرير المصير دوراً مهما في كيفية أداء البشر في العديد من مناحي الحياة المختلفة. يساعد الشعور بالتحكم والدافع الداخلي على خلق إحساس أكبر بالالتزام، الشغف، الاهتمام والرضا تجاه ما يقومون به.
يميل الأفراد القادرون على التأثير الإيجابي في العمل إلى الشعور باندماج وتحفيز أكبر. يمكن لربّ العمل بناء القدرة على تقرير المصير لدى العمال باتباع ما يلي:
- يمكن أن يعزز المدراء والقادة هذا الإحساس (القدرة على تقرير المصـير) من خلال السماح لأعضاء فريق العمل باتخاذ دور فعّال فيه.
- إتاحةُ وتوفير ما يُشعِر الموظفين بالمسؤولية، إعطاء ملاحظاتٍ مفيدة عن العمل وتقديم الدعم والتشجيع اللازمين.
- يجب أن يبقى أرباب العمل حذرين من الاستخدام المفرط للمكافآت (الدوافع) الخارجية. إذ يمكن للمكافآت المفرطة أن تقوّض الدافع الداخلي، وهي ظاهرةٌ تعرف باسم تأثير الإفراط في التبرير (overjustification effect). لكن يمكن أن تؤدي قلة المكافآت في المقابل إلى شعور الموظفين بعدم التقدير لهم.
تطبيق نظرية تقرير المصير ضمن بيئة تنافسية
في بيئة تنافسية كالرياضة وألعاب القوى، يمكن أن يُلهم تعزيز الإحساس بتقرير المصير الأفراد للتفوق.
فمثلاً، ينقاد الرياضيون الذين يشعرون بأنهم قادرون على تحقيق أهدافهم وتجاوز التحديات التي تواجههم إلى تقديم أداء أفضل.
ويتيح التفوق للأفراد فرصةَ الشعور بالكفاءة الذاتية وبراعةً فائقة في بناء المهارات المهمة لهم والتي تبعث على السعادة والمتعة.
وجد الباحثون أيضاً أن الأشخاص الذي يمتلكون حسّاً داخلياً بالسيطرة هم أكثر احتمالاً للالتزام بأداء نظام تمارين منتظَم.
تطبيق نظرية تقرير المصير ضمن البيئة الاجتماعية
يلعب مفهوم تقرير المصير دوراً مهماً أيضاً في العلاقات الاجتماعية للفرد. إذ يشكل الإحساس بالانتماء أمراً جوهرياً في تطور القدرة على تقرير المصير. ويمكن أن تحسّن إقامة علاقات وثيقة و ودودة مع الآخرين من هذه القدرة أيضاً.
لذا اسعَ لتكوين روابط إيجابية مع الأشخاص القادرين على دعمك لتحقيق أهدافك المرجوّة. واحرص أن تقدّم المساندة وردود الأفعال الإيجابية للأشخاص الذين يشكلون جزءاً من محيطك الاجتماعي الخاص.
تطبيق نظرية تقرير المصير في البيئة التعليمية
إن التلاميذ القادرين على تقرير المصير هم أكثر احتمالية للشعور بتحفيزٍ للإنجاز. توجد العديد من الخطوات التي يمكن أن يتّبعها المدرّسون في مساعدة الطلاب على تحفيز ودفع قدرتهم على تقرير المصير وعلى تعزيز الدوافع الداخلية منها:
تقديم الثناء المفاجئ، عندما يقوم التلميذ بواجباته بشكلٍ جيد، يمكن أن يحسن الكفاءة والجدارة. كما أنّ الابتعاد قدر الإمكان عن المكافآت الخارجية للأفعال التي يستمتع بها التلاميذ أصلاً يمكن أن يساعد في تنمية الدوافع الداخلية.
تطوير القدرة على تقرير المصير
إذا أردت تقوية قدرتك على تقرير المصير، فمن المفيد جداً النظر في صفات الشخص ذي القدرة العالية على تقرير المصير.
يميل الأشخاص الذين يمتلكون هذه القدرة العالية إلى:
الإيمان بقدرتهم على السيطرة على حياتهم الخاصة، إذ يمتلكون قدرة داخلية على السيطرة، ويؤمنون بأن سلوكياتهم ستؤثر على نتائجهم. عندما تواجههم التحديات، فإنهم يشعرون بقدرة عالية على تجاوزها عبر الاجتهاد وحسن الاختيار والعمل الجاد.
يمتلكون درجةً عالية من التحفيز الذاتي، لا يعتمد هؤلاء الأشخاص على المكافآت أو العقوبات الخارجية في الاندفاع للعمل، إذ ينخرطون في هذه السلوكيات الفاعلة انطلاقاً من قدرتهم على وضع الأهداف والعمل نحو تحقيقها.
تستند أفعالهم على أهدافهم وسلوكياتهم الفردية، بمعنى آخر، يعمدون إلى الانغماس في أفعال يعلمون مسبقاً بأنها ستقرّبهم أكثر من أهدافهم.
يتحملون مسؤولية تصرفاتهم، يعود الفضل في نجاح هؤلاء الأشخاص إلى أنفسهم؛ إلا أنهم أيضاً وبالرغم من ذلك يتقبّلون اللوم على أخطائهم.
يمكن أن تشجع تنمية الوعي الذاتي، مهارات صنع القرار والتنظيم الذاتي، والقدرة على تحديد الأهداف نمو قدرةٍ أقوى على تقرير المصير.
الخطوات التي يمكن أن تتخذها لتحسين قدرتك على تقرير المصير
إيجاد الدعم الاجتماعي، إذ يشكل التواصل الاجتماعي أحد أهم العناصر المكونة لنظرية تقرير المصير. حيث يمكن للعلاقات الاجتماعية المتينة والقوية أن تساعد في تعزيز الدافع والمصلحة. بينما تساهم العلاقات الاجتماعية الهشّة في تكوين إحساس ضعيف بالذات وبالدافع على حد سواء.
اقترح ديسي وريان أن البيئة الاجتماعية هي التي إمّا تساعد أو تعرقل مفهوم تقرير المصير، إذ يوفر الدعم الاجتماعي القويّ فرصاً للتنمية، بينما يخرّب الدعم الاجتماعي الهزيل التجارب غير الظاهرية (الداخلية) للفرد.
الشعور بالمهارة والبراعة، حيث يشكّل إتقان المهارات في مختلف المجالات التي تعدها مهمةً بالنسبة لك طريقاً جيداً لبناء شعور القدرة على تقرير المصير.
سواء كنت مهتماً بهواية ما أو أيّ رياضة أو مادة دراسية أو مجال آخر؛ فإن تعلّم المزيد عنه قدر الإمكان وتنمية وتحسين مهاراتك يمكن أن يساعدك على الشعور بقدر أكبر من الكفاءة. كلما تعلّمت ومارست الشيء أكثر، غدوت أكثر مهارة وقدرة على تقرير مصيرك.
نصيحة
يمكن أن تكون نظرية تقرير المصير على درجة كبيرة من الفائدة في فهم الأشياء التي تدفع وتحفّز سلوكك، إذ أن قدرتك على تقرير مصيرك والشعور بأنك تمتلك الاستقلالية والحرية في انتقاء خياراتك التي ترسم ملامح مصيرك؛ كلّها أمورٌ مهمة لرفاهية ورخاء حياة كلّ فرد.
عندما تسعى خلف الأشياء التي تقودها دوافع داخلية والتي تتوافق وتتماشى مع أهدافك، سوف تغمرك سعادة أكبر وشعور أقوى بالقدرة على اتخاذ الخيارات الصحيحة والجيّدة.
اقرأ أيضاً: كبش الفداء، شرح هذه النظرية في علم النفس، وكيف نواجهها في حياتنا اليومية
المصدر: Self-Determination Theory and Motivation
تدقيق: هبة محمد
تحرير: جعفر ملحم