من الممكن أن تتساءل عن أسباب اضطراب القلق الاجتماعي (SAD) إذا ما تم تشخيصك به. وبدلاً من وجود سببٍ وحيد لهذه المشكلة، فمن الممكن أن يكون نتيجة ارتباطٍ مُعقَّد بين مجموعةٍ من المتغيرات أدت إلى هذا الاضطراب.
العوامل الجينية هي أحد أهم أسباب اضطراب القلق الاجتماعي
إذا كنت تعاني من اضطراب القلق الاجتماعي. فمن المُحتمَل أنك تحمل جيناتٍ وراثية خاصة جعلتك أكثر عرضة لحدوث هذا الاضطراب لديك.
أيضاً؛ إذا كان أحد أفراد عائلتك أو أقربائك مصاباً باضطراب القلق الاجتماعي. فإن احتمال إصابتك به سيرتفع بمعدل اثنين إلى ست مرات.
يُعرَف العامل الوراثي المسبِّب لاضطراب القلق الاجتماعي أيضاً بـ “معامل التوريث” للاضطراب (Heritability).
على الرغم من وجود تباينٍ كبير في الدراسات حول درجة معامل التوريث. إلا أنه تم تقدير تأثيرها كعامل في اضطراب القلق الاجتماعي (SAD) بنسبة 30 إلى 40 بالمئة. ما يعني أن الثّلث تقريباً من الأسباب الكامنة وراء اضطراب القلق الاجتماعي يعود للجينات.
يشير معامل التوريث (الانتقال بالوراثة) إلى نسبة الاختلاف في النمط الظاهري (الصفات، العلامات الفارقة، أو الملامح الجسدية)، والتي يـُعتَقد أنها ناجمة عن التنوع الجيني بين الأفراد.
تـُعزى بقية الاختلافات عادةً إلى العوامل البيئية، إذ تعمل الدراسات المرتبطة بمعامل التوريث على تقدير نسبة المساهمة الفعلية للعوامل الوراثية والبيئية في انتقال سمةٍ أو صفةٍ معينة لدى الفرد.
إلى الآن، لم يستطع الباحثون إيجاد تركيبة جينية محددة ذات علاقة مباشرة بحدوث اضطراب القلق الاجتماعي (SAD). إلا إنهم اكتشفوا أن هناك جينات معينة ترتبط باضطرابات قلقٍ أخرى، مثل رهاب الخلاء (Agoraphobia) واضطراب الهلع (panic disorder).
العوامل البيئية
تنطوي الأسباب النفسية – الاجتماعية المؤدية لاضطراب القلق الاجتماعي (SAD) على العوامل البيئية التي تؤثر على الفرد خلال فترة النمو. فإذا كان أحد والديك مصاباً باضطراب القلق الاجتماعي، سوف سيزداد احتمال إصابتك بنفس الاضطراب؛ ويمكن أن يعود هذا الأمر لكلّ من التأثيرات الجينية والبيئية على حد سواء.
إضافةً لذلك، طور علماء النفس العديد من النظريات حول كيفية إصابة الأطفال باضطراب القلق الاجتماعي من خلال التعلّم (الاكتساب).
العوامل المحفِّزة لاكتساب الأطفال اضطراب القلق الاجتماعي
التكيُّف المباشر
لربما نسيت ماعليك قوله أثناء دورك في التمثيل في إحدى المسرحيات المدرسية. إذاً هل سخر أحد الأطفال منك بسبب ذلك؟ أو هل كنت ضحيةً للمضايقة المستمرة أو التنمُّر من أحدهم في طفولتك يوماً ما؟
بالرغم من أن هذا الأمر لايعد محفِّزاً للاضطراب بالضرورة، إلا أن معايشة أحداثٍ صادمة في سنّ مبكّرة قد تساهم في الإصابة باضطراب القلق الاجتماعي، وأحياناً يظهر التأثير بعد مرور عدة سنوات على حدوث الموقف الصادم.
التعلّم بالملاحظة
لنعتبر أنك لم تمر بحدثٍ صادم بنفسك، إذاً من الممكن أنك رأيت أحداً آخر يمر بهذه الصدمة؛ قد يكون لهذا الأمر نفس التأثير الذي يسببه التعرض المباشر للصدمة من قبل المصاب.
نقل المعلومات عن الاضطراب
قد ينقل أحد أفراد العائلة ممن لديهم خوف أو قلق اجتماعي بعض المعلومات اللّفظية والإشارات لأطفالهم، من غير قصد، عن أخطار المواقف الاجتماعية.
على سبيل المثال، إذا كانت والدتك تقلق بشكلٍ مفرط عما يعتقده الآخرون عنها، فمن المُحتَمل أن تتطور مثل هذه المخاوف لديك.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتنشئة الاجتماعية أن تساهم في احتمال تطور اضطراب القلق الاجتماعي لديك. وتزداد هذه الاحتمالية في الحالات التالية:
- إن لم تنخرط في مرحلة الطفولة في مواقف اجتماعية بالقدر الكافي، أو إن لم يكن مسموحاً لك أن تطوِّر مهارات اجتماعية ملائمة لك.
- إن كان أحد أو كلا والديك مهمِلاً، مسيطِراً، منتقِداً، أو مفرِطاً في الاهتمام بك. إذ يزداد خطر الإصابة بهذا الاضطراب عند الأطفال الذين لا يملكون علاقة وثيقة مع مقدمي الرعاية الأساسيين لديهم (الوالدين) كونهم عاجزون عن التهدئة والتخفيف عن أنفسهم لوحدهم إذا ما تعرضوا لمواقف شاقَّة.
التثبيط السلوكي في مرحلة الطفولة (Behavioral Inhibition)
هل تعرف رضيعاً أو طفلاً صغيراً ينفعل بكثرة وباستمرار عندما يواجه موقفاً جديداً أو يرى شخصا غير مألوفٍ بالنسبة له؟ هـل يبكي الطفل في هذه الحالات؟ هل ينفُر أو يلجأ لوالديه طلباً للطمأنينة؟
يُسمَّى هذا النمط من السلوك الذي يقوم به الأطفال بالتثبيط السلوكي (Behavioral inhibition)، إذ يكون هؤلاء الأطفال أكثر عرضةً للإصابة باضطراب القلق الاجتماعي لاحقاً أكثر من غيرهم.
ونظراً للظهور المبكِّر لهذه السلوكيات عندهم، فهذا يعني غالباً بأنها خاصيّةٌ فطريةٌ ونتيجةٌ لعواملَ بيولوجية.
إذا كنت قلقاً من وجود تصرفات تتصف بالنفور والانعزال لدى طفلك، فمن الأفضل أن تناقش هذه المخاوف مع طبيب مختص.
بما أننا أصبحنا على علم بأن الأطفال الذين يتبعون نمط التثبيط السلوكي هم أكثر عرضة للإصابة بالقلق الاجتماعي في الصغر. ويتطور الأمر إلى الإصابة بالرهاب الاجتماعي عند البلوغ، من المفيد أن يتم التدخل المبكّر بأية وسيلة ممكنة لمنع حدوث مشاكل أكبر لاحقاً.
العوامل الاجتماعية تعتبر أيضاً من أهم أسباب اضطراب القلق الاجتماعي
يكمن أحد العوامل الاجتماعية المسببة للإصابة باضطراب القلق الاجتماعي في النشوء ضمن ثقافاتٍ ذات نزعة جماعية قوية؛ كما في اليابان وكوريا. إذ تتمحور متلازمة تايجين كيوفوشو (Taijin kyofusho) في مثل هذه المجتمعات على الخوف من إزعاج الآخرين. وتعكس ثقافةً يتم فيها إعطاء أهمية بالغة لأن يكون الفرد جزءاً ملائماً ضمن جماعة أكبر.
العوامل البيولوجية / بنية الدماغ
كما تُستَخدم الأشعة السينية “لرؤية ما بداخل جسمك”، ينطبق الأمر ذاته على الدماغ. إذ يستخدم الباحثون الطبيون تقنيةً تسمى “التصوير العصبي” لتشكيل صورةٍ للدماغ، حيث تستطيع هذه التقنيات الحديثة أن تنظر إلى بنية الدماغ، ولايقتصر الأمر على ذلك فقط، بل يمكن الوصول أيضاً لأنماط الأداء في مناطق محددة منه.
وبالنسبة للاضطرابات العقلية، يستطيع الباحثون اكتشاف الاختلافات عبر ملاحظة الفروقات في تدفق الدم ضمن مناطق معينة من دماغ المصابين باضطراب محدد.
من المعروف أنه عندما نعاني من الشعور بالقلق، تشترك أربعة أجزاء محدّدة من الدماغ في ذلك:
- جذع الدماغ The brain system (يتحكم في ضربات القلب والتنفس)
- الجهاز الحوفي The limbic system (يؤثر على الحالة المزاجية ومستوى القلق)
- قشرة الفص الجبهي للدماغ The prefrontal cortex ( تساعد على تقييم درجة الخطر)
- القشرة الحركية The motor cortex (تتحكم في العضلات).
وجدت دراسة نُشِرت عام 2001 وتناولت الفروقات في نمط تدفق الدم في الدماغ اختلافاً بهذا التدفق بين أدمغة المصابين بالرهاب الاجتماعي عند تحدثهم وتفاعلهم في الأماكن العامة؛ استخدم الباحثون في هذه الدراسة نوعاً من التصوير العصبي يسمى ” التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني ” (PET).
إذ أظهرت نتائج هذا التصوير أن من يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي. لديهم زيادةٌ في تدفق الدم في اللوزة الدماغية (Amygdala)، وهي جزء من الجهاز الحوفي، و ترتبط بالشعور بالخوف.
عند مقارنتهم مع الأشخاص الطبيعيين الذين لا يعانون من الاضطراب (SAD)، أظهرت صورة الـ (PET) أن لديهم ازدياداً في تدفق الدم إلى القشرة المخية (cerebral cortex)، إذ ترتبط هذه المنطقة بالتفكير والتقييم (المحاكمة العقلية).
بالنتيجة، يستجيب دماغ المصابين باضطراب القلق الاجتماعي بشكلٍ يختلف عن الأشخاص الطبيعيين خلال التفاعل مع المواقف الاجتماعية.
النواقل العصبية (Neurotransmitters)
إذا كنت تعاني من اضطراب القلق الاجتماعي، فمن المُحتَمل وجود اختلالٍ في موادَ كيميائية معينة في دماغك. تُعرَف باسم النواقل العصبية (Neurotransmitters) ويستخدم الدماغ هذه المواد الكيميائية لإرسال الإشارات من خلية إلى أخرى.
في هذا الصدد، نذكر أهم النواقل العصبية المرتبطة بشعور القلق:
- النورإيبينفرين (Norepinephrine).
- السيروتونين (Serotonin).
- الدوبامين (Dopamine).
- حمض غاما أمينوبيوتيريك (GABA).
تبيَّن أن المصابين باضطراب القلق الاجتماعي يظهر لديهم نفس نمط الاختلالات في النواقل العصبية الموجودة لدى حالات الأشخاص المصابين برهاب الخلاء (Agoraphobia) واضطراب الهلع (panic disorder).
إن فَهم كيفية ارتباط هذه المواد الكيميائية في الدماغ مع حالة اضطراب القلق الاجتماعي أمرٌ مهم جداً في التشخيص الدقيق والاختيار الأمثل للعلاج.
خلاصة
عموماً، لا يوجد سبب وحيد يفسّر الإصابة باضطراب القلق الاجتماعي. إذ يمكن أن يكون الاضطراب ناجماً عن مجموعة من العوامل المختلفة لدى البعض.
لذا، عندما يتم تشخيصك باضطراب القلق الاجتماعي. يجب على طبيبك أو أخصائي الأمراض العقلية الخاص بك أن يناقش معك العوامل المُحتَملة المساهِمة في نشوء هذا الاضطراب لكي يحدّد العلاج الأمثل لك.
المصدر: Understanding the Causes of Social Anxiety Disorder
تدقيق: رهام شلغين
تحرير: جعفر ملحم