يتزايد الاهتمام بموضوع تجارب الموت الوشيك أو الاقتراب من الموت ويصبح أكثر شعبية وانتشاراً، وذلك على أعقاب الأفلام والكتب المشهورة التي تروي تجارب الخروج من الجسد وغيرها من الأحاسيس التي يختبرها المرء خلال الأحداث المهددة للحياة.
إذ نُشر كتابان مثيران للاهتمام على وجه الخصوص ألفه أطباء يتحدثان عن تجارب الموت الوشيك (Near-death experiences).
على سبيل المثال، في كتاب “إثبات على الجنة / Proof of Heaven“، أعاد الدكتور إيبن ألكساندر (Eben Alexander) سرد ما اختبره أثناء الغيبوبة التي استمرت لمدة أسبوع وكانت بسبب مرض السحايا.
في غضون ذلك، ناقشت الدكتورة ماري سي نيل (Mary C. Neal) في كتابها ” إلى الجنة، ذهاب وعودة / To Heaven and Back ” تجربة الدنو من الموت أثناء غرقها في نهر بعد انقلاب قارب التجديف.
استمر هذان الكتابان في تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً حسب صحيفة نيويورك تايمز. ما يُظهر أن هذا الموضوع لم يستحوذ على اهتمام البلاد فحسب بل اقتضى أبحاثاً إضافية من المجتمع الطبي.
عقب تجربة الموت الوشيك، درس الدكتور أليكساندر المخططات الطبية الخاصة به وتوصل إلى استنتاج مفاده أنه كان في غيبوبة عميقة لدرجة أن دماغه كان متوقفاً تماماً.
ويعتقد أن الطريقة الوحيدة لتفسير ما مر به هي تقبل فكرة أن روحه انفصلت عن جسده وطافت إلى عالم آخر.
ما هي تجارب الموت الوشيك؟
ابتداء من الأضواء الساطعة والشعور بالدفء وصولاً إلى الانفصال عن الجسد، ذكريات الماضي، ومقابلة الملائكة وغيرها من الكائنات. كلها أشياء رواها الأشخاص الذين مروا بتجربة الاقتراب من الموت.
الأكثر من ذلك، أفاد هؤلاء الأشخاص أن تجاربهم لم تكن تشبه الحلم ولا الهلوسة. بل كانت حقيقية أكثر من الحياة الواقعية نفسها.
في حين أن تجارب الموت الوشيك هذه تشكل ظاهرة معترفاً بها على نطاق واسع. إلا أن هناك من يشكك في صحة هذه التجارب ومصداقيتها.
ينظر النقاد إلى قصص تجارب الموت الوشيك أو الخروج من الجسد على أنها تشابه روايات القوى النفسية، الروح الشريرة، اختطاف الكائنات الفضائية وغيرها من الحكايات.
يعتبر الكثير من الناس تجارب الموت الوشيك صعبة التصديق فحسب. لكن هذه التجارب كثيرة ومتنوعة وموثقة بشكل جيد بحيث لا يمكن أن تكون مُختلقة بالكامل.
النظريات الشعبية
الدماغ جزء معقد وحساس على حد سواء.على سبيل المثال، إذا نقصت كمية الأوكسجين ولو قليلاً، سيستجيب الدماغ لذلك على الفور.
ووفقاً لهذا الأمر، يقترح العديد من العلماء أن تجارب الاقتراب من الموت هي نتيجة تغيرات فيزيائية في الدماغ. مثل نقص الأوكسجين والذي يحدث عندما يكون الدماغ في حالة إجهاد أو احتضار.
نقص الأوكسجين
وضع العلماء نظرية تقول أن هذه التجارب تحدث نتيجة نقص الأوكسجين، آثار التخدير، واستجابات الجسد العصبية الكيميائية للصدمة. إلا أن الأشخاص الذين اختبروا تجارب الموت الوشيك يعتبرون أن هذه التفسيرات غير كافية ولا تشرح أو حتى تقترب من إظهار ما مروا به.
من الواضح أن تجارب الموت الوشيك مثيرة للاهتمام والفضول والحيرة العلمية على حد سواء. ومع تقدم المهارات الطبية والتكنولوجيا، أصبح الأطباء الآن قادرين على إنقاذ الناس من على حافة الموت في كثير من الأحيان. لذا، فإن ازدياد روايات تجارب الموت الوشيك يبدو أمراً معقولاً ومقنعاً.
النجاة رغم الصعاب
على سبيل المثال، توجد تقارير لأشخاص شفوا تماماً بعد ساعات دون تنفس أو نبض، أو بعد الدفن في الثلج، أو الغمر في مياه باردة. في الحقيقة، يمكن للجراحين خلق هذه الحالات عمداً.
إذ لا يقومون بإرخاء جسم المريض أو إيقاف قلبه لإجراء عمليات جراحية خطيرة فحسب بل بدؤوا أيضاً بتجربة هذه التقنيات على مرضى الصدمات الذين تأذوا بشدة.
إذ يبقونهم بين الحياة والموت حتى تشفى جراحهم على نحو كاف. بناءً على ذلك، يكون لدى الناس أحياناً قصص لسردها حول تجاربهم الخاصة.
الوعي أثناء التخدير
في كثير من الأوقات، يعزو الأطباء تجارب الخروج من الجسد إلى “آثار المخدر على الوعي”. يحدث وعي التخدير عندما لا يزال المريض تحت تأثير التخدير لكنه يستطيع سماع مقتطفات من الحديث أو الموسيقى في غرفة العمليات.
رأي الأبحاث
تعود أولى الروايات المكتوبة عن تجارب الموت الوشيك إلى العصور الوسطى، بينما يصر بعض الباحثين أن هذه الروايات يمكن أن توجد في قديم الزمان.
في الواقع، نشرت المجلة الطبية ” Resuscitation ” رواية مختصرة عن أقدم تفسير طبي لتجربة موت وشيك كتبها طبيب عسكري فرنسي في القرن الثامن عشر. لكن، يقال أن معظم الدراسات المعاصرة التي تناولت تجارب الاقتراب من الموت قد بدأت عام 1975.
أبحاث جامعة ساوثامبتون
على الرغم من قلة الدراسات الموضوعية حول تجارب الموت الوشيك، إلا أن العديد منها قدم بعض الرؤى الأولية إزاء هذه التجارب.
على سبيل المثال، أجرى باحثون من جامعة ساوثامبتون دراسة عالمية مدتها أربع سنوات شملت أكثر من 2000 مريض سكتة قلبية. وقد نُشرت نتائج الدراسة واستنتاجات الباحثين الأولية في مجلة ” Resuscitation ” الطبية.
خلال الدراسة، والتي أشير إليها بـ AWARE (الوعي أثناء الإنعاش). درس الباحثون نطاقاً واسعاً من الوعي (الصحوة) والتجارب النفسية المرتبطة بالسكتة القلبية.
ومن بين الـ 2060 مريضاً الذين شملتهم الدراسة نجا 330 منهم وكان 140 فقط قادراً على إكمال مقابلات منظمة تتناول ذكرياتهم حول الحدث.
الوعي مقابل الذاكرة
ما اكتشفه الباحثون هو أن ما يقارب الـ 40% من هؤلاء الأفراد وصفوا بعض الإدراك للوقت الذي سبق الإنعاش، أو عندما توقفت قلوبهم عن النبض.
لم يكن لدى العدد الأكبر من هؤلاء المرضى أي ذكريات محددة عن الحدث، ما يبين أن الكثير من الناس لديهم نشاط عقلي بالفعل خلال السكتة القلبية.
إلا أنهم يفقدون ذاكرتهم المتعلقة بالنشاط بعد التعافي أحياناً. وفقاً للأطباء الذين أجروا الدراسة، فإن ذلك يمكن إرجاعه إلى أذية دماغية أو الأدوية الشبيهة بالمهدئات.
على سبيل المثال، الـ كيتامين، هو عقار يستخدم أحياناً للتهدئة والتخدير العام. وقد عرف بأنه يجعل الأشخاص يشعرون بالقوة وبإحساس بالانفصال والانسلاخ عن أجسادهم بالإضافة إلى السلام والبهجة.
في الحقيقة، حالة الهدوء والسكينة التي يختبرونها من استخدام الكيتامين تشابه بشكل كبير أحياناً تجارب الموت الوشيك أو الدنو من الموت.
المثير للاهتمام أن الدراسة قد وجدت أيضاً أن 46 بالمئة من المرضى عانوا ذكريات تتعلق بالموت لم تكن متوافقة مع كيفية وصف الناس لتجارب الموت الوشيك.
في الواقع، أفاد البعض بشعورهم بالخوف أو كأن شيئاً ما يجرّهم عبر مياه عميقة. اختبر 9 بالمئة فقط تجارب كانت شبيهة بتجارب الموت الوشيك و 2 بالمئة اختبروا تجربة الخروج من الجسد بما فيها سماع أو رؤية أحداث.
تجارب المرضى
في حالة واحدة لأحد المرضى، كان هناك وعي وإدراك بدا أنه حدث خلال فترة ثلاث دقائق من وقت توقف النبض.
وجد الباحثون أن هذا الاكتشاف متناقض لأن الدماغ يتوقف عن الأداء عادة خلال 20 إلى 30 ثانية بعد توقف القلب ولا يبدو أنه يتابع نشاطه مرة أخرى حتى يستعيد القلب نبضه. إذاً، فإن حقيقة احتمال وجود بعض النشاط الدماغي تشير إلى أن شيئاً ما يحدث.
عموماً، لم يستطع العلماء التنصّل من أن تجارب الموت الوشيك تحدث بيقين مطلق. وبالمثل، كانت هناك مجموعة صغيرة أفادت بوجود تجارب لم يستطيعوا تحديد حقيقة أو معنى ما مرّ به المرضى خلالها.
أشار المرضى أن مصطلحات مثل الموت الوشيك أو تجارب الخروج من الجسد يمكن ألا تكون وافية بالقدر الكافي لوصف التجربة الحقيقية للموت وما يجري داخل الدماغ.
أخيراً، اقترحوا أنه يجب على الدراسات المستقبلية التركيز على النوبة القلبية. والتي تمثل المرادف البيولوجي للموت بدلاً من الحالات الطبية والتي يشار إليها أحيانا بـ ” الموت الوشيك”.
بحث جامعة واشنطن
في غضون ذلك، فحصت دراسة أخرى نشاط الدماغ لدى سبعة مرضى بحالة حرجة تمت إزالة أجهزة الدعم عنهم.
وجد الباحثون، باستخدام التخطيط الكهربائي للدماغ لتسجيل النشاط العصبي الكهربائي، ارتفاعاً في النشاط العصبي خلال وقت الوفاة أو زمن قريب منه على الرغم من حدوث فقدان في ضغط الدم وانخفاض في نشاط الدماغ قبل الارتفاع تماماً.
وفقاً للباحثين، تحدث هذه الارتفاعات في أكثر وقت نتوقع فيه موت الدماغ بسبب نقص تدفق الدم. بعد توقف نشاط الدماغ بوقت قصير، أعلن عن وفاة المريض.
يخمن الباحثون أنه عندما يتباطأ تدفق الدم وينفذ الأوكسجين، تغدو الخلايا غير قادرة على الحفاظ على طاقتها بعد الآن. وما يحدث تالياً هو سلسلة تعاقبية من النشاط الذي يتموج عبر الدماغ.
إذا حدثت هذه “النوبات” في مناطق الذاكرة في الدماغ، فإن ذلك يمكن أن يفسر الذكريات الحية التي يفيد بها المرضى عند الإنعاش.
خلاصة
كانت تجارب الموت الوشيك والخروج من الجسد محطّ اهتمام الناس على مساحة واسعة لسنوات عدة. في الحقيقة، يحبذ الجميع سماع ما شهده الآخرون حين كانوا على حافة الموت.
لكن، هناك الكثير حول تجارب الاقتراب من الموت لا يمكن فهمه أو شرحه. لذا، من الواضح وجود حاجة لأبحاث إضافية وصحيحة تتناول ظاهرة تجارب الموت الوشيك والخروج من الجسد من جميع النواحي. حتى ذلك الحين، يجد الكثير من الناس العزاء والسلوى في معرفة أن هذه التجارب هي جزء من الحياة نفسها.
اقرأ أيضاً: اللاوعي، المفهوم، آليات الدفاع واللاوعي الجمعي
اقرأ أيضاً: الحديث عن الانتحار، ما الذي يجب أن تفعله أو تتجنبه؟
اقرأ أيضاً: الجامود أو الكاتاتونيا (الجمود)، الأسباب، الأعراض والعلاج
المصدر: An Inside Look at Near-Death Experiences
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم