يعاني البعضُ من فكرة نسيانِ أو تجاوزِ العلاقات العاطفية السابقة، حتى بعد مرور سنوات طويلة عليها.
إن تقبُّلَ حقيقة الأمر والسماحَ للذكريات القوية أن تخمد يمكن أن يساعد على تجاوز العلاقات العاطفية السابقة.
كيف تؤثر أنماط التعلق المختلفة على تجاوز العلاقات العاطفية السابقة؟
لنفترض أنه قد مرّ أكثر من عامٍ على انفصال أحد أصدقائك عن شريكته، لكنه لا يستطيع التوقف عن تذكرها باستمرار، وتراه يعيد التفكيرَ بالأمر بشكلٍ متكرر. ويتساءل كيف وصل به الأمر للاعتقاد بأنها تحبُّه حقاً، وكيف تغيَّرت وأنهَت هذه العلاقة؟
في هذه الحالة، من الجليّ أنك ستحاول أن تكون حاضراً معه وداعماً له قدر المستطاع، ولن تزيد من يأسه أبداً بإخباره عن معاناتك مع تجربتك العاطفية المؤلمة السابقة.
على الرغم من مرور وقتٍ طويل على تجربتك العاطفية التي باءت بالفشل وانتهت بالانفصال، إلا أنك حين تستلقي على فراشك وحيداً في وقتٍ متأخر من الليل. أو حتى عندما تكون على وشك الاستيقاظ في الصباح، سوف تجد أن عقلك لا يزال يعودُ إلى ذكرياتِ تلك العلاقة من جديد.
وستتذكرُ حينها المشاعرَ الجيّاشة والانجذابَ القوي الذي شعرت بهما آنذاك. واليأسَ العميق الذي نشأ بداخلك عندما انتهت هذه العلاقة.
إذاً، سينتهي بك الأمر وأنت تستلقي في فراشك مكسورَ القلب كمراهقٍ ذي ستّة عشر عاماً، بجسدٍ مُنهَكٍ ومكتئبٍ يبدو بسنّ الأربعين.
وبالنتيجة، لن يسعك إلا التساؤل عمّا إذا كان بإمكانك التعايش مع هذا المراهقِ مكسورِ القلب الذي يسكن بداخلك.
هل العلاقات العاطفية السابقة كغيرها من التجارب؟
لماذا لا يمكنك تجاوزُ الأمرِ ونسيانُه؟ لماذا لا زلت تتأثّر بأمورٍ حدثت في الماضي إلا أنها تتسرّب إلى مشاعرك الحاضرة؟ فأنت قد مررت بتجاربٍ أخرى مؤلمةٍ غير هذه؛ تجاربَ استطعتَ تجاوزها ببساطةٍ وتركتها تمضي وراءك، ونادراً ما تسترجعها، إذاً ما الفرق هنا؟
تتمحور الإجابةُ حول الطريقة التي تتم بها معالجةُ المشاعر تبعاً لنمطِ التعلق لدى كل شخص، بالإضافة إلى مدى التوقعات المستقبلية القائمةِ على هذا التعلّق، وكيفيةِ تفاعل هذه المشاعر مع نظام ذاكرتك.
تكمن النقطة الأساسية في أنّ أولئك الذين يشكّلون نمطاً آمناً للتعلّق العاطفي (Secure Attachment Styles) لديهم مهارة عالية في تنظيم عواطفهم والسيطرة عليها، وقدرةٌ كبيرة على تقييم الجيّد والسيئ في الآخرين (يتعاملون معه بمرونة)، إضافة إلى تمتُّعهم بنظرةٍ تفاؤلية مهما كانت الصّعاب.
بمعنى آخر، يعتقد هؤلاء الأشخاص أن الحبّ والمشاعرَ الإيجابية موجودان دائماً، ويتوقعون وجودَ أشخاصٍ من حولهم قادرين على الوقوف إلى جانبهم ودعمهم.
وعندما تكون علاقاتهم العاطفيةُ مستقرّةً، فإنهم لا ينجرفون وراء توقعاتٍ إيجابية مبالغٍ بها. بل يستمتعون ببساطةٍ بجمال اللحظة الحالية ويتعاملون معها بنجاح.
بالتالي، عندما تسوء العلاقة في مرحلةٍ ما، لا تؤثّر المشاعر السلبية عليهم، ولا تؤدي إلى شعورهم بالصدمة أو الانهيار. ولأنهم على يقينٍ دائم بأنهم سيكونون محاطين بالحبّ وبالأشخاص الداعمين. فإنهم لا يتمسكون بشخصٍ وحيدٍ، في وقتٍ محدد، وإلا لن تكون هناك فرصةٌ لحبّ حقيقي آخرٍ مطلقاً.
يساعدهم الوعيُ الكافي الذي يتمتعون به على إبعاد المشاعر المثالية والتهويل عنهم وعلى عدم الإيمان بوجود شخصٍ وحيد منقذ، إذ لا يرسمون في أذهانهم شكلاً خياليّاً لعلاقتهم العاطفية يناقِض الواقع.
نمط التعلق الآمن ونمط التعلق القلق
بالمقابل، دعنا نقارن بين من يشكلون نمطَ تعلقٍ سليم وآمن وبين أصحابِ نمطِ التعلق القَلِق أو المشغول (Preoccupied Attachment Style).
إذا كان نمط التعلق الذي تشكله يتّصف بالقلق والانشغال، فسوف تظن أن الحبّ شيءٌ نادر عليك تحصينُه وحمايته، وتؤمن ببساطةٍ بأنه لا يوجد احتمالٌ لحدوث علاقةٍ أخرى غير تلك التي ترتبط بها الآن. بالتالي، ستظن أنه لا وجودَ إلا لشخص واحدٍ فقط يجب أن ترتبط به، وعندما تجد هذا الشخص المنشود، ستصبحُ دائمَ الحذر من خسارته.
قد يمتد الأمر بك إلى الانجراف وراء أحلامِ يقظةٍ وتخيلاتٍ عن الحبّ المثالي والشغف الكبير لذلك الشخص، ومن المحتمل أن تخلق هذه الحالةَ لنفسك أيضاً.
لكن، غالباً ما يَتبعُ هذه اللحظات الجميلة جداً إحباطٌ شديد ويأسٌ كبير (هذا إن لم يسبب الأمر هلعاً عندك). فيما إذا ساءت الأمور ولم تكن بمستوى التوقعات.
من خلال كل ذلك، يمكن للشخص الذي يتّصف نمطُ تعلّقه بالقَلِق أن يعيد جميع الأمور مراراً وتكراراً في ذهنه.
ما هو دور الذاكرة في العلاقات العاطفية؟
وهنا يأتي دور الذاكرة، فعندما تمر بتجربةٍ عاطفية عميقة وقوية، فإن اللوزة الدماغية (وهي عنصر أساسي من الدماغ العاطفي) تخصصُ “إشارة” أو علامةً عاطفيةً ضمن الذاكرة لهذه التجربة.
لاحقاً، عندما تعود بالذاكرة لهذه التجربة، فإنك تسترجع المشاعر العاطفية المرتبطة بها بشكل تلقائي. وحتى في المستقبل عندما تنتابك مشاعرٌ تشبه مشاعرَ هذه التجربة، قد يسترجع عقلك الذكريات والأحداث المرتبطة بها.
وكلما أسهبت في استرجاع هذه الذكريات، كلما أصبحت السيالات العصبية لتلك الذكرى أقوى في دماغك (عبر عمليةٍ عقلية تـُعرَف باسم التقوية طويلة المدى /Long-term Potentiation).
تلعبُ مشاعرُ الفقدان والخسارة في العلاقات العاطفية دوراً هاماً. خاصةً لأولئك الذين يميلون إلى النّمط القلقِ والمشغول من التعلق العاطفي.
إذ غالباً ما يجدون أن هذه المشاعر غامضةٌ و لا تزال معلقة. و يعيدون الأحداثَ الماضية باستمرار في محاولةٍ فاشلةٍ لفهمها أو التخلّي عنها وتركها خلفهم.
تكمن المشكلة في أن هذا النهج نادراً ما ينجح، وقد يصل الأمر لأن تصبح في الأربعينيات من عمرك ومازلتَ تشعرُ بنفس الحيرة والحزن العميق على من رحل.
لذا، إذا كنت تميل إلى استعادة الذكريات المؤلمة مراراً وتكراراً، حاول أن تفكّر بالمستقبل بدلاً من ذلك. واستفد من التجربة السابقة لتعلُّم أساليبَ صحيحة في علاقتك العاطفية التالية. إذ تـُظهِر الدراسات أن التركيز على اكتشاف الحلّ يخفف من التوتر والمشاعر السلبية.
لا تركز انتباهك في فهم أحداث الماضي بل اتركها و امضِ .
نمط التعلق الرافض
يلجأ الأشخاص الذين يوصَف نمطُ تعلقهم بالرّافض (Dismissing Style) إلى هذا الحلّ تلقائياً.
فهم “يرفضون” حرفيّاً الأحداثَ السلبية والشعورَ بالفقد والخسارة ويعتبرونها غيرَ منطقيةٍ ودون جدوى. كما يعمدون إلى قمع وكبت كلّ المشاعر السلبية بداخلهم. لذلك من غير المحتَمل أن تُسبّب لهم تلك المشاعر معاناة شديدة (على الأقل على مستوى الوعي).
يؤدي هذا الأسلوب المتمثّل بالإنكار والكبت إلى إضعافِ شدة التجاربِ المؤلمةِ والمواقف ذات التأثير السلبي .
ضع في اعتبارك أن هذه الاستراتيجيات مرنةٌ وتستطيع تخفيف الألم المرتبط بحالات الفقد العاطفي. لكن، لها ثمن في المقابل، فقد تلجأ هذه الفئة من الأشخاص لهذه الاستراتيجيات. حتى في علاقاتهم العاطفية الحالية، ولايقتصر الأمر على العلاقات السابقة.
نمط التعلق الخائف
يوصف النمط الرابع من أنماط التعلق العاطفي بالتعلقِ الخائف (Fearful Style)، وتنتاب أصحابَه نفسُ مشاعر القلق والرغبات الجامحة الموجودة عند أصحاب نمطِ التعلّق القلِق. لكنهم يميلون إلى تفادي، إنكار وكبت هذه المشاعر والرغبات. كما في نمط التعلق الرافض.
تكمن المشكلة هنا في أنهم لا يملكون مهارةً قوية كفاية في تنظيم المشاعر. والتي من شأنها أن تساهم في كبت المشاعر السلبية بشكل فاعل.
يمكن أن تغزو المشاعرُ السلبية هؤلاء الأشخاص فجأةً وفي أوقات غير مناسبة وغير مُتوقَّعة. فيدخلون في دواماتٍ عاطفية شديدة و تغمرهم مشاعرُ الفقد المبهمة.
إذا كان نمط التعلق الذي تشكّله مع الآخرين يندرج تحت مسمّى النمط الخائف. فمن الأفضل لك أن تواجه ما تكبُته من مشاعرَ بداخلك، وأن تُفصح عنها لشخصٍ جديرٍ بالثقة. مثل المعالج النفسي أو صديق مُقرَّبٍ لك وصريحٍ معك.
بالتالي، وبمجرد أن تشعر بأن هناك من يفهُمك ويقدّر شعورك ويقدّم لك النصيحة. يمكنك البدء في الانخراط في نمط التفكير الذي يركّز على الحلول الممكنة في المستقبل، وتترك الانفصال خلفَك وتمضي.
بغضّ النظر عن شكل التعلق العاطفي الذي تشكّله، يحتاج كلّ شخصٍ على الدوام أن يفهم ويستوعب ما يدور في عالمه. إن لم تفهم وتتقبّل سببَ انتهاء العلاقة. فلن يكون عقلك قادراً على تصنيف مكانِ هذه الأمور في ذاكرتك أو خريطتك الذهنية (المخطط الذهني – schema).
وإذا كانت التجربةُ العاطفيةُ التي مررت بها غامضةً وغيرَ مفهومة، فلن تعرف الأسبابَ المنطقية الكافية لتغيير الخطة الذهنية في دماغك أو لبناء غيرها.
لذلك، قد تبقى الأفكار والذكريات تجول في ذهنك، وتستمر بالعودة إليك حتى تدخل في علاقة عاطفية جديدة تنسيك التفكير بالماضي.
الخلاصة
تكمن الخلاصة في أن هذه الأفكار الصعبة ستظل تنتظر بصبرٍ داخل عقلك إلى وقتٍ تجد فيه نفسك مرتاحاً مع ذاتك دون وجود أحد. أو إلى أن ترى أحد أصدقائك يتحدث باستمرار وتكرار عن علاقته السابقة.
حينها تستطيع نسيان تلك الأفكار والمضيّ قُدماً في حياتك.
المصدر: Why Some People Can’t Let Go of Past Relationships
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم