عود الاهتمام بالذكاء لأكثر من قرن مضى، لكن لم يبصر اختبار حاصل الذكاء النور إلا حين طُلب من عالم النفس ألفريد بينيه (Alfred Binet) تحديد الطلاب الذين هم بحاجة للمساعدة التعليمية.
على الرغم من القيود التي كانت تحيط به، فإن اختبار حاصل الذكاء (IQ) لـ بينيه كان معروفاً في جميع أصقاع الأرض كطريقة تقييم ومقارنة للذكاء. ومهّد السبيل أيضاً أمام تطور العديد من اختبارات الذكاء التي لا زالت مستخدمة في يومنا هذا.
تاريخ تقييمات الذكاء
في أواخر الثمانينيات، نشر مؤسس علم النفس التفاضلي فرانسيس غالتون (Francis Galton) بعضاً من الأعمال الأولى المتعلقة بالذكاء البشري. اقترح غالتون أن الذكاء وراثي ويمكن اختباره من خلال النظر في كيفية أداء الأشخاص خلال المهام الحسية الحركية.
المهام الحسية الحركية هي مهام أو تمارين تنطوي على تلقي الدماغ لرسالة ما وثم توليد استجابة. مثلاً، أثناء قيادة السيارة، تدرك أن المركبة التي أمامك تتباطأ سرعتها (تلقي الرسالة) نتيجة لذلك تضغط على المكابح لإبطاء سرعتك أيضاً (الاستجابة).
فضّل غالتون أيضاً استخدام الإحصائيات لشرح البيانات التي جمعها، رغم أن هذه المعلومات لم تؤكد صحة معتقداته دائماً. على سبيل المثال، اعتقد بارتباط شكل الرأس وحجمه بالذكاء، إلا أن البيانات لم تدعم هذه الفكرة.
كان غالتون نفسه يعتقد أنه ذو معدل ذكاء عالٍ، حتى في طفولته، مع إشارة البعض إلى أن حاصل الذكاء عنده ” لم يتجاوز 200 درجة” عندما كان عمره أقل من 8 سنوات. وفقاً لتصنيف درجات حاصل الذكاء، كانت هذه الدرجة لتصنفه ضمن فئة “الموهوبين جداً”.
كان لعلماء نفس آخرين آنذاك أفكار خاصة بهم مثل جيمس كاتيل (James McKeen Cattell) الذي طرح أنه يمكن استخدام اختبارات عقلية بسيطة لقياس الذكاء. لكن، لم يحدث هذا الأمر إلا بعد عدة سنوات حين ظهر أول اختبار للذكاء.
ألفريد بينيه وأول اختبار ذكاء
ألفريد بينيه (Alfred Binet) هو عالم نفس من أصل فرنسي له فضل كبير في تطوير علم النفس التجريبي. رغم أنه سعى للعمل كمحامي في الأساس، ازداد اهتمامه بمحاولات غالتون لقياس العمليات العقلية. لدرجة أنه تخلى عن مهنة المحاماة وشرع في البدء في رحلة غالتون نفسها.
في ذلك الوقت، كان لدى الحكومة الفرنسية قوانين تلزم جميع الأطفال بالذهاب إلى المدرسة. لذلك كان من المهم إيجاد طريقة لتحديد الأطفال المحتاجين إلى مساعدة إضافية. طلبت الحكومة الفرنسية من بينيه عام 1904 المساعدة في تحديد الطلاب الذين من المرجح مواجهتهم صعوبات في المدرسة.
بدأ بينيه وزميله ثيودور سيمون (Theodore Simon) تطوير أسئلة تركز على مجالات لم يتم تدريسها بشكل صريح في الحصة الدرسية مثل الانتباه، التركيز، الحفظ ومهارات حل المشكلات. وثم عملا على تحديد أفضل الأسئلة التي تُنبئ بالنجاح الأكاديمي.
ابتكر بينيه وسيمون في النهاية اختباراً يتضمن 30 سؤالاً، مثل السؤال عن الاختلافات بين الملل والتعب أو الطلب من المتقدمين للاختبار متابعة جسم متحرك بعين واحدة فقط والذي أصبح يُعرف بمقياس بينيه – سيمون (Binet-Simon Scale) وكان أول اختبار حاصل ذكاء معترفاً به.
أدرك بينيه بسرعة قدرة بعض الأطفال على الإجابة على أسئلة متقدمة أكثر. بالاستناد على هذه الملاحظة، اقترح فكرة العمر العقلي الذي يقيس الذكاء بناءً على متوسط قدرات الأطفال ضمن فئة عمرية محددة.
قيود اختبار بينيه-سيمون للذكاء
أصبح مقياس بينيه-سيمون للذكاء (ويطلق عليه أحياناً مقياس سيمون-بينيه) الأساس لاختبارات الذكاء والتي لا تزال مستخدمة حتى الآن، رغم القيود التي تحيط به.
على سبيل المثال، لم يؤمن بينيه أن أدوات القياس النفسي لديه يمكنها قياس مستوى وحيد ودائم وفطري للذكاء. بدلاً من ذلك أشار إلى أن الذكاء هو مفهوم أبعد من أن يُحدد برقم واحد.
أصر بينيه أن الذكاء متشعب ومعقد من ناحية تأثره بالعديد من العوامل ويتغير بمرور الوقت ويمكن مقارنته فقط عند الأطفال من بيئات مماثلة.
لا يأخذ اختبار بينيه-سيمون بالاعتبار هذا التعقيد بالضرورة، مقدماً مقياساً غير كامل للذكاء. شرع بعض علماء النفس بإجراء تعديلات لازمة لدعم الصورة الكاملة لقياس الذكاء والتي بدورها أدت إلى ظهور اختبارات حاصل ذكاء (IQ) أحدث وأكثر شمولية.
مقياس ستانفورد-بينيه للذكاء
كان عالم النفس لويس تيرمان (Lewis Terman) من جامعة ستانفورد من بين الأخصائيين الذين استخدموا اختبار بينيه الأصلي للذكاء وجعل منه معياراً موحداً مستخدماً عينة من مشاركين أمريكيين. عرف هذا في البداية باسم مقياس ستانفورد-بينيه المعدل ولكن يعرف الآن بشكل أوسع بـ مقياس ستانفورد-بينيه للذكاء.
أُخذ مقياس ستانفورد- بينيه، الذي نشر لأول مرة عام 1916، عن الاختبار الأصلي الذي كُتب بمصطلحات وأفكار فرنسية ترجمت إلى الانكليزية. وتضمن مقياس ستانفورد- بينيه أيضاً مصطلحات جديدة استخدم فيها مقياسان مقابل مقياس واحد للحصول على نتيجة أكثر دقة.
قدم اختبار بينيه رقماً وحيداً عرف بحاصل الذكاء (IQ/intelligence quotient) لتمثيل درجة الأفراد في الاختبار. ولا يزال أداة تقييم شائعة في يومنا هذا على الرغم من إجراء العديد من التعديلات خلال سنين من تأسيسه.
كانت تحسب درجة معدل الذكاء بتقسيم العمر العقلي للمشتركين على عمرهم الزمني ثم ضرب هذا الرقم ب 100.
اختبارات ألفا وبيتا للجيش
في بداية الحرب العالمية الأولى، واجه ضباط الجيش الأمريكي مهمة فحص وتصنيف عدد هائل من المجندين. في عام 1917، طور عالم النفس روبرت يركيس ( Robert Yerkes) اختبارين لقياس معدل الذكاء ويطلق عليهما اسم اختبارات ألفا وبيتا للجيش، إذ كان يريكس يشغل حينها منصب رئيس لجنة الفحص النفسي للتجنيد.
تم تصميم اختبار ألفا للجيش (Army Alpha) على شكل اختبار كتابي بينما كان اختبار بيتا (Army Beta) مكوناً من صور للمجندين الذين لم يتمكنوا من القراءة والتحدث باللغة الانجليزية. وأجري الاختبار على ما يزيد عن 2 مليون جندي.
كان الهدف من الاختبارين مساعدة الجيوش على تحديد الرجال المناسبين لمناصب محددة وأدوار قيادية. وقد ظلت الاختبارات مستخدمة بعد الحرب على نطاق واسع ضمن حالات خارج المجال العسكري.
على سبيل المثال، تم استخدام اختبارات حاصل الذكاء (IQ) لفحص المهاجرين الجدد حال دخولهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية. نتيجة الاختبارات، عممت العديد من السمات المؤذية وغير الدقيقة على شعوب كاملة. هذا الأمر دفع الكونغرس الأمريكي لإصدار قيود على الهجرة ذات طابع عنصري للجماعات التي يعتقد أنها ذات حاصل ذكاء “أدنى وراثياً”.
مقياس ويشسلر للذكاء
اعتقد عالم النفس الأمريكي ديفيد ويشسلر (David Wechsler) بشكل مماثل لبينيه أن الذكاء يتضمن قدرات عقلية مختلفة. إلا أنه لم يكن راضٍ عن قيود اختبار ستانفورد-بينيه. لذلك نشر اختبار ذكاء جديداً له عام 1955 وأُطلق عليه (Wechsler Adult Intelligence Scale /WAIS) اختبار ويشسلر لذكاء البالغين.
طور وشسلر اختباري ذكاء مختلفين يختصان بالأطفال. الأول هو مقياس ويشسلر لذكاء الأطفال (WISC) ومقياس وشسلر للذكاء في مرحلة ماقبل المدرسة والمرحلة الابتدائية (WPPSI). أما نسخة البالغين فقد تعدلت منذ نشرها بالنسخة الأصلية وتعرف الآن بـ مقياس ويشسلر لذكاء البالغين الرابع (WAIS-IV).
مقياس ويشسلر لذكاء البالغين الرابع
يقيس هذا المقياس الذكاء بمقارنة درجة صاحب الاختبار مع درجات ذكاء الآخرين من نفس الفئة العمرية بدلاً من التقييم اعتماداً على العمر العقلي والزمني.
تم تحديد معدل وسطي وهو درجة 100 بالإضافة إلى ثلثي الدرجات التي تقع ضمن المعدل الطبيعي والتي تتراوح بين 85 و 115 درجة.
إذ أصبحت درجة التحديد هذه معيارية (موحدة) لاختبارات الذكاء وتُستخدم أيضاً في التعديلات الحديثة لاختبار ستانفورد-بينيه.
ويتضمن هذا الاختبار عشرة اختبارات فرعية مرافقة لخمس اختبارات داعمة تعطي درجات تغطي أربعة مجالات أساسية للذكاء، وهي:
- الاستيعاب اللفظي.
- التفكير الإدراكي.
- الذاكرة العاملة.
- سرعة معالجة المعلومات.
يقدم المقياس أيضاً درجتين شاملتين يمكن استخدامهما لتلخيص الذكاء الكلي. إذ تجمع درجات مقياس حاصل الذكاء الكامل أداء جميع درجات المؤشرات الأربعة. بينما يرتكز مؤشر القدرة العامة على ست درجات لاختبارات فرعية.
الجدل المحيط باختبـارات الذكـاء
تتنوع الآراء المتعلقة بمصداقية وصحة اختبارات الذكاء، وتتغير في بعض الأحيان وفقاً لوجهة نظر الباحث السياسية وجندره. لكن تتعلق المخاوف بما إذا كانت اختبارات الذكاء تقيس الذكاء بدقة. أو أن النتائج تتأثر بالعوامل الخارجية مثل مستوى تحفيز الفرد وجودة التعليم خلال المرحلة الدراسية والحالة الصحية والإرشاد المقدم من الآخرين وغير ذلك.
وهناك أيضاً أسئلة متعلقة فيما إذا كانت اختبارات الذكاء موثوقة وذات مصداقية. إذ تعتبر كذلك في حال تكررت نفس نتائج الاختبار خلال مدة من الزمن.
وجدت إحدى الدراسات التجريبية التي تناولت مقياس ويشسلر المختصر للذكاء-الطبعة الثانية (Wechsler Abbreviated Scale of Intelligence – Second Edition) ويرمز له اختصراً (WASI-II) مصداقية جيدة في بعض حالات الاختبار وضعف المصداقية في حالات أخرى.
تتعلق بعض الخلافات التي تحيط باختبارات حاصل الذكاء بفكرة أنها منحازة بطبيعتها ضد مجموعات عرقية معينة. أي مثل الأمريكيين ذوي البشرة السوداء والأمريكيين من أصل لاتيني. قد يؤدي هذا الانحياز الواضح في وقت لاحق إلى التمييز العنصري وإلحاق الضرر بهذه المجموعات وحرمانها من حقوقها.
استخدام اختبـارات حاصـل الذكـاء
في الوقت نفسه، يؤمن آخرون أن اختبارات الذكاء تقدم بعض الفوائد القيمة خصوصاً في مواقف معينة وتستخدم اليوم عدة طرق لاختبارات الذكاء بما فيها:
- تطبيقات الدفاع في القضايا الجنائية (Criminal defense applications): تُستخدم اختبارات الذكاء أحياناً ضمن أنظمة العدالة الجنائية للمساعدة في تحديد ما إذا كان يمكن للمتهم المشاركة في دفاعه عن نفسه خلال المحاكمة.
- تحديد صعوبات التعلم (Learning disability identification): قد تفيد درجات الاختبار الفرعي في مقياس ويشسلر لقياس ذكاء البالغين الرابع في تحديد صعوبات التعلم.
على سبيل المثال، قد تشير الدرجة المنخفضة في بعض المجالات والتي ترافقها درجات مرتفعة في مجالات أخرى إلى احتمال أن الشخص يعاني من صعوبات معينة مرتبطة بالتعلم. - تقييم التأثيرات العلاجية (assess therapeutic impacts): يتم استخدام اختبار حاصل الذكاء في بعض الأحيان للمساعدة في قياس ما إذا كان علاج نفسي معين نافعاً أم لا، أو إذا كان العلاج الدوائي يؤثر على الوظائف المعرفية. على سبيل المثال، استخدمت دراسة لأحد الأبحاث عام 2016 اختبارات حاصل الذكاء لمعرفة ما إذا كان أحد العلاجات النفسية المصمم للمساعدة في علاج أورام الدماغ لدى الأطفال يعطي نتائج عصبية معرفية أفضل من أنواع العلاج الأخرى.
- تعزيز تطوير الذكاء الصناعي (AI): تستخدم بعض نظريات ومبادئ اختبار حاصل الذكاء المطبق على البشر للمساعدة في تطوير استخدام الذكاء الاصطناعي (AI) في أنظمة الكمبيوتر.
ويستخدم لتخصيص نتائج محرك البحث وتوصيات المنتجات، وربما يكون أيضاً مساعداً حتى في التنبؤ بالمرض النفسي.
اقرأ أيضاً: الذكاء العام (العامل G)، ما هو وما آلية عمله وتأثيراته؟
اقـرأ أيضاً: نظرية الذكاء المتعدد، ما هي أنواع الذكاء التي حددها العالم هوارد غاردنر؟
اقرأ أيضاً: ما هي اختبارات الكفاءة؟ وما أنواعها؟ وما الفرق بين اختبار الكفاءة واختبار الذكاء؟
المصدر: Alfred Binet and the History of IQ Testing
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم