يمكن وصف العلاقة بين الاكتئاب وتعاطي الكحول بأن كُلّا منهما يغذي الآخر؛ ففي الكثير من الحالات يؤدي علاج تعاطي الكحول إلى التخفيف من الاكتئاب، لكن لا يؤدي التخفيف من حدة الاكتئاب إلى حل مشكلة اضطراب تعاطي الكحول.
لن يساعدك تناول الكحول في الشعور بتحسن إذا كنت تصارع الاكتئاب، إذ من الممكن له أن يكبح جماح مشاعر الوحدة، القلق أو الحزن مؤقتاً ولكن ليس للأبد، ومن المرجح أن يزيد الاكتئاب سوءاً.
في بعض الحالات، يمكن أن تتلقى تشخيصاً مزدوجاً من اضطراب الاكتئاب الشديد (MDD) واضطراب تعاطي الكحول(AUD)؛ إذ يعد هذا الاضطراب المشترك أمراً شائعاً لكنه صعب العلاج.
يضع هذا المقال الخطوط العريضة للعلاقة بين الاكتئاب وتعاطي الكحول، أي كيف يتواءم هذان الاضطرابان، ويحدد خيارات العلاج الممكنة وطرق التأقلم معهما.
تأثيرات تعاطي الكحول
يمكن أن يؤدي تعاطي الكحول إلى الشعور بالنشوة والمتعة، ويجعلك أكثر سعادةً وثقةً على الفور، إلا أن هذه المشاعر هي مشاعر عابرة في الحقيقة.
يمكن أن يسبب تعاطي الكحول الاكتئاب، فالكثير من الباربيتيورات (المهدّئات) والمشروبات الكحولية هي عقاقير مخدرة تؤثر على الجهاز العصبي المركزي وعلى وظائف الدماغ. لكن يتناول العديد من الأمريكيين المشروبات الكحولية حتى في حال معاناتهم من الاكتئاب.
يقول البروفيسور جيل بولت تايلور (Jill Bolte Taylor)، مؤلف كتاب ‘الدماغ الحي بالكامل’: ” إن تعاطي الكحول في مجتمعنا هو أمر متاح بسهولة ومقبول اجتماعياً أيضاً.”
ويضيف: “يرتبط الاكتئاب وسوء تعاطي الكحول مع بعضهما أحياناً، لأننا عندما نتناول مواد مسببة للاكتئاب (الكحول) لمواجهة اكتئاب حاد فإننا بذلك نجعل الأمر أكثر سوءاً.”
كلما ازداد تعاطي الكحول كلما ازدادت حدة الأعراض. واعتماداً على درجة الثمالة يمكن أن تعاني من انخفاض تثبيط الاكتئاب، فقدان المحاكمة العقلية، الشعور بالارتباك والتشويش، تقلبات في المزاج والكثير أيضاً.
” يُستخدم الكحول أحياناً لتخدير المشاعر المزعجة ويمكن أن يغدو نمطاً اعتيادياً مُعرقلاً (مُخلاً) للتوازن الطبيعي للنواقل العصبية في الدماغ.” تقول الدكتورة فينيسا كينيدي (Vanessa Kennedy) مديرة قسم علم النفس في مركز دريفتوود للتأهيل.
بغض النظر عن المشروب الكحولي الذي تختاره، فمن السهل إساءة استخدامه وغالباً يكون ذلك، خاصة إذا تم اللجوء إليه كدواءٍ بشكل شخصي.
عندما تسكب لنفسك كأساً من النبيذ أو الجعة في نهاية يوم طويل، يمكنه أن يخفف مؤقتا من مشاعر الاكتئاب كونه يعمل عمل المهدئات، ولكنه يثير هذه المشاعر ويزيد من حدتها فعلياً.
يُفاقِم التناول المستمر والمفرط للكحول خطر الإصابة باضطراب الاكتئاب الرئيسي. ويمكن أن يزيد أعراض الاكتئاب الموجود مسبقاً ويعرّض صحتك النفسية والجسدية للخطر.
يجب أن يكون الأشخاص المصابون بالاكتئاب الرئيسي على درجةٍ كبيرة من الحذر عندما يتعلق الأمر بتناول العقاقير المخدرة مثل الكحول.
وفقاً للدكتورة كينيدي، فإن ترافق مضادات الاكتئاب عند الأشخاص الذين يتناولونها مع الكحول يمكن أن يقلل من تأثيرها.
عوامل مساهمة في حدوث اضطراب الاكتئاب وتعاطي الكحول
من المثير للاهتمام شيوعُ ترافُق حدوث اضطراب الاكتئاب مع اضطراب تعاطي الكحول. لكن هناك بعض العوامل المحددة التي يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بهذين الاضطرابين معاً. تتضمن هذه العوامل ما يلي:
- العوامل الجينية: تشمل تاريخ العائلة المَرَضي مع الاكتئاب أو إساءة استخدام العقاقير المخدرة.
- تاريخ طبي مع حالات نفسية: مثل الصدمة، سوء المعاملة، تعاطي المخدرات، اضطراب ما بعد الصدمة والذي يمكن أن يكون ناجماً عن سوء المعاملة في الطفولة، الاعتداء الجنسي، الحرب إلخ.
- حالات صحية نفسية كامنة
- عوامل بيئية، تشمل التعرض للعنف، الصدمة، الاعتداء، سوء المعاملة… إلخ
إذا كنت تعتقد أنك معرّض لإدمان الاكتئاب وتعاطي الكحول، فمن الضروري الحديث إلى أخصائي في الصحة النفسية مثل مرشدٍ اجتماعي، مستشارٍ نفسي أو معالج حول هذه المخاوف للوصول إلى طريقة مثلى لمنع هذين الاضطرابين أو التأقلم معهما.
الاكتئاب وتعاطي الكحول
وجدت العديد من الدراسات أن إدمان الكحول يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاكتئاب. عندما يتعلق الأمر بتشخيص اضطراب تعاطي الكحول واضطراب الاكتئاب الرئيسي، فمن المهم جداً معالجتهما بشكل متزامن كونهما يؤثران بشكل كبير على مدى التحسن.
ما هما هذان الاضطرابان بدقة وكيف يرتبطان ببعضهما البعض؟
اضطراب تعاطي الكحول (AUD)
يعد الكحول مشروباً مخدراً مقبولاً اجتماعياً ولكنه يبقى مخدّراً في النهاية، يُعتبر كل من إدمان الكحول وسوء تعاطيه أشكالاً من اضطراب تعاطي الكحول، إذ تبين نتائج الدراسات أن إدمان الكحول أكثر ارتباطاً باستمرارِ اضطرابات الاكتئاب.
وفقا للدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية (DSM-5)، ما يلي بعض من العلامات والأعراض التي يمكن أن تشير إلى اضطراب تعاطي الكحول:
- يؤثر شرب الكحول على حياتك في المنزل، المدرسة والعمل
- توقّفت عن المشاركة في النشاطات المهمة بالنسبة لك
- تعرضت لمواقف خطرة أثناء الشرب عند قيادة السيارة أو السباحة، أو إقامة علاقات جنسية غير آمنة تحت تأثير الكحول
- تناولت الكحول لتجربة تأثيرٍ معين
- عانيت من أعراض انسحاب الكحول من جسمك مثل الغثيان، التعرق، تسارع ضربات القلب أو اضطراب النوم
- حاولت الإقلاع عن تناول الكحول دون جدوى
- تناولت أكثر مما كنت تنوي خلال عدة مناسبات
- استمريت بالشرب على الرغم من شعورك بالاكتئاب، القلق، فقدان الوعي
- ترغب بالشرب بشدة لدرجة أنك لا تفكر بشيء آخر.
وجدت مراكز التحكم بالأمراض والوقاية منها أن تسعةً من كل عشرة بالغين ممن يشربون الكحول بشراهة لا يعانون من اضطراب تعاطي الكحول الحاد.
لكن لا يعني هذا أن شرب الكحول لا يمثل مشكلة بالنسبة لهم؛ فشرب الكحول بهدف التأقلم مع الاكتئاب يُعد أمراً مقلقاً بغض النظر عما إذا كان هذا اضطراباً أم لا.
يمكن أن يكون اضطراب تعاطي الكحول خفيفاً، متوسطاً أو شديداً وذلك اعتماداً على مجموعة الأعراض التي يعانيها الفرد.
لكن يمكن أن تظهر مشاكل الشرب بغض النظر عن التشخيص السريري.
سواء كنت تعاني من الاكتئاب أم لا، فمن المهم تقييم عادات شرب الكحول لديك، لماذا تشربه، متى تشربه وماهو شعورك عندما تشرب الكحول.
اضطراب الاكتئاب الرئيسي (MDD)
يُعد الاكتئاب اضطراباً مزاجياً خطراً وشائعاً، إذ يؤثر على الأفكار والمشاعر والسلوكيات. ففي الولايات المتحدة وحدها، يعاني حوالي 17.3 مليون بالغ من نوبة اكتئاب عظمى (الاكتئاب الوجداني) واحدة على الأقل.
وفقاً للدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية، تشمل بعض العلامات والأعراض للاكتئاب ما يلي:
- الشعور بالحزن والفراغ الداخلي والإحباط
- فقدان المتعة بالأنشطة التي كانت تبعث على البهجة سابقاً
- تغيّر ملحوظ في الوزن أو فقدان الشهية
- اضطراب في النوم، الشعور بالإرهاق، أو النوم بكثرة
- تكوّن أفكار تتعلق بالموت أو الأفكار الانتحارية
- صعوبة في التركيز
ينطوي اضطراب الاكتئاب الرئيسي على أعراضٍ مستمرة وطويلة الأمد، لكن يأخذ الاكتئاب بشكلٍ عام أشكالاً عدة مختلفة. يمكن أن تكون أعراض الاكتئاب ناجمة عن ضغوطات الحياة أو حالات صحية نفسية أو حالات طبية أو عوامل أخرى.
يمكن أن يكون الاكتئاب نتيجةً مباشرةً لتعاطي الكحول وذلك في حالة الاضطراب الناجم عن تعاطي المواد المخدرة.
على الرغم من معاناة كثير من الأشخاص من الاكتئاب، إلا أنه من الممكن ألا يتم تشخيصه وعلاجه. لكن يجب عليك ألا تواجه الاكتئاب بمفردك؛ فالاعتماد على تناول الكحول من أجل الشعور بتحسن سيؤدي إلى الشعور بألمٍ إضافي فقط.
تواصل مع أخصائي صحة نفسية لمناقشة طرق العلاج واستراتيجيات التأقلم الممكنة مع حالة الاكتئاب.
حالات أخرى ذات صلة ب الاكتئاب وتعاطي الكحول
يشير بعض الخبراء إلى أن كُلّا من اضطراب الاكتئاب واضطراب تعاطي الكحول يتشاركان فيزيولوجيا مَرَضية كامنة؛ كونهما يُعدان حالتان من التهاب الأعصاب، ونتيجةً لهذه الارتباطات المشتركة، يجب أن يتضمن علاج الاضطرابين نظاماً غذائياً يهدف إلى تحسين وظيفة الأمعاء وتقليل كمية السموم الداخلية التي تساهم في التهاب الأعصاب.
يمكن أن يُنصح باتباع حمية البحر الأبيض المتوسط (نظام غذائي متوسطي) على سبيل المثال؛ كونه غنيّ بأحماض أوميغا 3 الدهنية.
خيارات العلاج
من المهم جداً معالجة كِلا الاضطرابين بشكلٍ متزامن عند الأخذ بعين الاعتبار خيارات العلاج الممكنة، ذلك لأنهما متشابكان بشكلٍ كبير ويمكن أن يُفاقم أحدهما الآخر.
تشرح الدكتورة كينيدي ذلك بالقول: “تُعتبر الخلايا كائنات حية. وإذا كنت ترغب في معالجة مشكلة الاكتئاب على مستوى الخلايا، فاعلم أنك لا يجب أن تكون مخموراً. لأن الكحول يجعلنا نشعر بالثمالة والتشويش لأنه يسبب للخلايا حالةَ سُكر وتصبح غير فعالة وظيفياً.”
“تتراوح خيارات العلاج بين اللجوء لمعالجٍ نفسي بشكلٍ فردي أو طبيبٍ نفسي مرة في الأسبوع ضمن العيادات الخارجية إلى حضور جلسات جماعية خارجية مكثفة ثلاث مرات في الأسبوع أو العلاج المنزلي.
حيث يبقى المريض ضمن بيئةٍ علاجية ويتلقى العلاج المكثف ويتم إبعاده عن المشروبات الكحولية بهدف الوصول إلى الشفاء.”
يمكن أن يكون التشخيص الثنائي (اضطراب تعاطي الكحول مع اضطراب الاكتئاب) معقداً وصعب العلاج مهما كانت الظروف.
فيما يلي أكثر خيارات العلاج شيوعاً. لكن يجب أن تعلم أن التعافي يتطلب خطة علاجٍ شخصي تناسب احتياجاتك الصحية النفسية.
تقول كنيدي: “تتضمن التدخلات العلاجية المُصمَّمة لعلاج هذين الاضطرابين عادةً التركيز على علاج الألم العاطفي أو الصدمة. إضافةً إلى تطوير وممارسة سلوكيات تأقلم صحية.”
يعتمد العلاج المتبع على الفرد ذاته. لكن توجد العديد من التدخلات العلاجية التي تُستخدم في علاج كل من اضطراب تعاطي الكحول واضطراب الاكتئاب الرئيسي.
تنصح كنيدي في هذا السياق بما يلي:
- العِلاج الخاص للصدمة (Trauma-specific therapy)
- العلاج السلوكي الجدلي (DBT)
- العلاج الفردي (Individual therapy)
- العِلاج الجماعي (Group therapy)
- العلاج الأسري (Family therapy)
يمكن أن يُستخدم العلاج السلوكي المعرفي في علاج كلا الاضطرابين (AUD و MDD). وذلك من خلال تحسين عملية تنظيم العواطف وتغيير السلوكيات العقلية (الإدراكية) والمساعدة في تطوير استراتيجيات تأقلم شخصية.
ويمكن أن تحتاج علاجاً مكثفاً بشكل أكبر مثل رعاية العيادات الخارجية والعلاج المجتمعي الإلزامي (ACT). أو علاج ضمن الإقامة السكنية والتي يمكن أن تُطلب للبدء أو إكمال رحلة شفاء المريض ويمكن أيضا الانضمام إلى مجموعات أهلية متوفرة حول المريض.
العلاج الدوائي
يعتمد العلاج الدوائي المستخدم في علاج اضطراب تعاطي الكحول واضطراب الاكتئاب الرئيسي على الفرد وظروفه بشكلٍ كامل.
وفقا للدكتورة كينيدي، تشمل خيارات العلاج الدوائي المحتملة ما يلي:
- مثبّطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRIs)
- مثبطات استرداد السيروتونين والنوربينفيرين الانتقائية (SNRIs)
- مثبّطات أوكسيداز أحادي الأمين (MAOIs)
- مضادات الاكتئاب الثلاثية
- مثبتات المزاج
من المهم جداً الانتباه إلى أن العلاج الدوائي المستخدم في اضطراب تعاطي الكحول هو خط العلاج الأول. إذ يمكن أن يكون مفيداً للكثير من المرضى؛ لذلك تحدث إلى طبيبٍ لمناقشة هذا الخيار.
إذا كنت تعاني من أعراضٍ حادّة لانسحاب الكحول من جسمك مثل القلق، الأرق، الغثيان والهلوسات وغيرها، فيمكن أن يقترح طبيبك الخاص أدويةً مثل الكلورديازيبوكسيد أو أصناف البنزوديازيبينات الأخرى.
توصَف أدوية نالتريكسون وأكامبروسيت وديسولفيرام في هذه الحالة أيضاً وهي أدوية موافق عليها من قبل منظمة الغذاء والدواء و يمكنها أن تساعد في كبح جماح إدمان الكحول.
يمكن أن يساهم المعالج النفسي الخبير (أو أيّ أخصائي صحة نفسية) المطّلع على اضطرابات المزاج وأثر تعاطي الكحول. في تقديم العلاج الدوائي المناسب وفي مراقبة تأثيره على المريض.
الخلاصة
يمكن أن يكون شرب الكحول أمراً مغرياً في حال شعرت بالحزن، لكن تتوفر حلول أفضل غير ذلك حولك. عندما تعالج الاكتئاب أو تعاطي المواد المخدرة، استشر أخصائي صحة نفسية أو مختصاً في الإدمان أو كلاهما. والذي يمكنه أن يزودك بالمصادر والتوصيات المتعلقة بخيارات العلاج الممكنة.
اقرأ أيضاً: هل هناك علاقة بين الانتحار والكحول مع التقدم بالعمر؟
المصدر: What’s the Connection Between Alcohol and Depression
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم