لدى الهواتف الذكية القدرة لأن تكون إما مُمتلكات مفيدة وبنَّاءة للغاية أو ملهيات مدمرة وضارة في الحياة. فما هو تأثيرها على المرونة العصبية؟
يحتفظ دماغنا بعد قراءة كتاب، مشاهدة فيلم، السفر، زيارة العائلة خلال الإجازات والعطل، إنهاء يوم شاق في العمل أو النجاة من تجربة مؤلمة بذكريات هذه التجارب في مناطق مختلفة من دماغنا.
وإذا حرصنا على النوم بشكل هانئ ليلاً، فسيتم تخزين ذكريات اليوم السابق لاستحضارها على المدى الطويل في مناطق مختلفة من الدماغ ليلاً بواسطة الحُصين (hippocampus). بالاضافة إلى الروابط العصبية التي ستسمح بإعادة بناء كل أجزاء الذاكرة بغرض إعادة إحياء التجربة أو الحدث السابق.
الذكريات الترابطية والمرونة العصبية
لقد جرب معظمنا استدعاء ذكرى كانت متصلة بإحساس في الحاضر والمرتبط بدوره بتجربة من الماضي. أفكر في جدتي، على سبيل المثال، كلما شممت رائحة أشجار الصنوبر إذ كان لديها وسادة زينة في غرفتها من الجبال البيضاء في (نيو هامبشاير) مليئة بـ إبر الصنوبر، ورائحة الصنوبر ملأت غرفتها. وعندما أشم هذه الرائحة، تومض دائماً في ذهني ذكرى زيارتي لها في غرفتها عندما كنت طفلاً.
عندما يتم تخزين الذكريات للمدى الطويل، تُقَسَّم إلى أجزاء و تُشَفَّر بعد ذلك في مناطق الدماغ الخاصة بتلك الأجزاء. وهكذا، يتم تخزين الذكريات المرئية في القشرة البصرية، والروائح في القشرة الشمية، والعواطف في الجسم اللوزي أو (اللوزة الدماغية).
وعندما يتم تنشيط أحد تلك الأجزاء في وقت ما من المستقبل، مثل رائحة إبر الصنوبر في غرفة جدتي، فيمكن أن يظهر جزء مرتبط من الماضي متصل بالجزء الموجود في الوقت الحاضر. إنها طريقة فعالة لتخزين الذكريات المعقدة. والتي يمكن أن تؤدي إلى ظهور ذاكرة ترابطية في الوقت الحاضر بمجرد وجود التلميح أو الإشارة الصحيحة.
التخلّق المشبكي المتدفق الدوري (Periodic Prolific Synaptogenesis)
علمت في كلية الطب أن الدماغ مترابط منذ الولادة. ولكن خلال السنوات الثلاثين الماضية، أظهر علم الأعصاب بشكل قاطع أن هذا ليس هو الحال على الإطلاق.
مع تقدم فهمنا لتطور الدماغ، أصبح من الواضح أنه خلال السنوات الثلاثة الأولى من الحياة، تشكّل الخلايا العصبية في الدماغ بشكل كبير روابط مشبكية. ليتم تحضيرها للعديد من المهام الوظيفية المتنوعة والتي لن تحتاج إلى إنجاز معظمها.
من سن الثلاث سنوات فصاعداً، تعمل الدارات المستخدمة بشكل متكرر على تقوية روابطها بينما يتم استبعاد تلك التي لا تؤدي وظيفة ما؛ ومن هنا جاءت العبارة الشائعة “الخلايا العصبية التي تنطلق معاً، تتشابك معاً”.
لقد تعلمنا أن الدماغ، مع وجود مساحة محدودة لشغلها بسبب حدود الجمجمة، يزيد من استخدام كافة المناطق العصبية أياً كانت. ووفقاً لهذا المسعى فإن الاتصال العصبي للدماغ خلال السنوات القليلة الأولى من الحياة يتمتع بمرونة كبيرة.
ويعد أحد الأمثلة الراسخة بقوة على ذلك هو اكتشاف أن الأفراد الذين يولدون مكفوفين ويصبحون بارعين في قراءة لغة برايل لديهم تغيُّران في توصيلات الدماغ مقارنة بمن يولدون بنظر طبيعي.
والسبب هو توسع منطقة القشرة الحسية الجسدية التي تدعم الأصابع التي تقرأ لغة برايل بالأعصاب. ويحدث نشاط ملحوظ في القشرة البصرية أثناء القراءة بطريقة برايل، على خلاف أولئك الذين يولدون برؤية طبيعية. إذ لم يتم اكتشاف أي نشاط في القشرة البصرية عندما يقرؤون لغة برايل.
وكان هذا أول دليل على أن منطقة من الدماغ يعتقد أنها مرتبطة بوظيفة معينة مثل البصر، يمكن أن تتكيف مع بيئتها (أي ضعف الرؤية.) وتعيد توظيف القشرة البصرية في عملية قراءة لغة برايل.
أظهر البحث اللاحق الذي أجراه علماء الأعصاب في المعاهد الوطنية للصحة وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA.) أن هناك فترتين زمنيتين إضافيتين عندما يخضع دماغ الفرد لعملية تخلّق (تكوين) مشبكي واسعة النطاق للدارات المستخدمة وتشذيب أو تدمير الدوائر ذات الاستخدام الأقل.
وتحدث فرص إعادة ربط الدماغ هذه لزيادة أداء الدارات المستخدمة بنشاط بين سن العاشرة و الإثنى عشر عاماً ومجدداً في أوائل العشرينات. ويبدو الدماغ أخيراً مشابهاً لدماغ شخص بالغ عادي في مرحلة ما بين سن العشرين والخمسة وعشرين عاماً.
إعادة توصيل الطرف الوهمي وتأثير المرونة العصبية
من الخصائص الأخرى الرائعة لأدمغتنا قدرتها على إعادة توصيل جزء لم يعد نشطاً بعد الآن. كان طبيب الأعصاب Vilayanur Subramanian Ramachandran. أول شخص بيّن أنه بعد بتر أحد الأطراف، مع تثبيط جميع المدخلات العصبية لأجزاء الدماغ التي كانت مرتبطة بهذا الطرف، تستمر هذه المنطقة غير النشطة في الدماغ بتشكيل مشابك عصبية مع مناطق الدماغ المجاورة.
أبلغ Ramachandran عن مريض يشكو من أحاسيس أطراف وهمية عقب بتر ذراعه اليسرى حتى الكوع نتيجة حادث سيارة.
كان المريض معصوب العينين وتم حك أعواد قطنية على أجزاء مختلفة من جسمه؛ ثم تم تسجيل موقع هذا الإحساس. كانت جميع المواقع دقيقة حتى قام الطبيب Ramachandran بِحَك عود التنظيف على طول الجانب الأيسر من وجه المريض.
قال المريض: “دكتور، أشعر بذلك على يدي الوهمية، أنت تلمس إبهامي”. عندما قام الطبيب بضرب الفك السفلي للمريض بنهاية مطرقة انعكاسية. قال المريض:”أشعر بجسم حاد يتحرك عبر الخنصر إلى راحة يدي” وهي يده المبتورة.
كشف فحص شامل عن وجود خريطة كاملة ليد المريض المبتورة على وجهه. وبعد هذا الاكتشاف، أصبح المريض قادراً على تخفيف الإحساس بالحكة في راحة يده الوهمية. عن طريق حك الجزء المرتبط من وجهه والذي من المفترض أن الخلايا العصبية في راحة اليد قد ارتبطت به. فاتضح أنه في القشرة الحسية الجسدية للإنسان تكون الخلايا العصبية لليد مجاورة لتلك الموجودة في الوجه.
فترة حياة المرونة العصبية
لقد زودنا علم الأعصاب بفهم مذهل لوجود فرصة محدودة زمنياً للتأثير على التوصيل والشبكات العصبية لأدمغتنا. حتى سن الـ خمسة وعشرين عاماً. لدينا ثلاث فترات زمنية منفصلة ومتميزة يمكن أن تؤثر فيها أفكارنا، أفعالنا، بيئتنا، غذاؤنا، استخدام المواد المخدرة، خبراتنا، سلوكياتنا وأنشطتنا بشكل كبير على نمو عقولنا. ما يؤدي بالنتيجة إلى بنية ووظيفة دماغية مستمرة؛.وهذه الفترات هي: من عمر السنة إلى ثلاث سنوات ومن العشرة أعوام إلى الاثني عشر عاماً وفي أوائل العشرينات من العمر.
تتيح كل فترة من هذه الفترات فرصة للدماغ لتقوية التشابك العصبي بشكل كبير للوظائف التي تستخدم بنشاط ولاستبعاد والتخلص من المشابك العصبية التي استُخدمت بشكل ضئيل.
بالإضافة إلى ذلك، يظل الدماغ مرناً طوال حياتنا. وأي سلوك جديد، وخاصة مع التكرار، سوف يحفز التخلق المشبكي (تشكل المشابك بين العصبونات) لتقوية الروابط العصبية ذات الصلة.
يتضح هذا بشكل جيد من خلال حالة الطرف الوهمي وكذلك من خلال مجموعة كبيرة من المؤلفات التي تُثبت أن العلاج المهني والفيزيائي الحازم بعد الجلطة الدماغية. والذي يتضمن تقييد الطرف السليم (العلاج بتحفيز الحركة المقيدة)، يمكن أن ينتج عنه تحسن كبير في الوظائف التي فُقدت.
قاعدة الـ 10000 ساعة
في كتاب المُغايرون أو الاستثنائيون (Outliers) السابع الأكثر مبيعاً على المستوى الوطني، يشرح مالكولم جلادويل موضوعاً مشتركاً بين الأفراد أو المجموعات. بما في ذلك بيل جيتس وفرقة البيتلز اللذان يتفوقان في مهارة معينة. وببساطة، فإن إنجازاتهم النهائية كانت حصيلة 10000 ساعة من تعلم وممارسة تلك المهارة.
فإذا أمضينا أربعين ساعة أسبوعياً في تعلم مهارة معينة لمدة خمسين أسبوعاً في السنة، فإن ذلك يساوي ما يصل إلى 2000 ساعة في السنة.
وبعد 5 سنوات، ستتراكم لدينا عشرة آلاف ساعة من الخبرة ومن المحتمل أن نكون قد طورنا قدراً كبيراً منها. فمن وجهة نظر علم الأعصاب، أمضى دماغنا عشرة آلاف ساعة في إعادة تقوية وتعزيز نقاط الاشتباك العصبي التي تشارك في تطوير وتنفيذ الدارات التي تشكل أساس هذه الخبرة .
خلاصة
ما علاقة المرونة العصبية بالهواتف الذكية؟ كما هو الحال مع أي أداة أو سلوك أو نشاط أو تقنية، فلدى الهواتف الذكية القدرة لأن تكون إما ممتلكات مفيدة وبنَّاءة للغاية أو مُلهيات مدمرة وضارة في الحياة. بعد تراكم عشرة آلاف ساعة من استخدام هاتف ذكي، سوف يتأثر دماغنا بالتأكيد ويُعاد ربطه وتشبّكه بطريقة كبيرة ما يؤثر على المرونة العصبية لدماغنا.
هناك سؤال لا إجابة له يثير اهتمامي بقدر كبير من الفضول والقلق، ألا وهو:
ما تأثير قضاء جزء كبير من اليوم في النظر إلى الهاتف الذكي على نمو الدماغ خلال أول خمسة وعشرين عاماً من الحياة، وما الذي ينتج عنه من تجارب معرفية وعاطفية؟ أنا فقط أتساءل.
اقرأ أيصاً: تأثير الهواتف الذكية على الدماغ
المصدر: Neuroplasticity and Smart Phones
تدقيق: هبة محمد
تحرير: جعفر ملحم