الانحياز الضمني (Implicit Bias) هو ربط ذهني، اعتقاد أو موقف لاواعي تجاه أي مجموعة اجتماعية (يقصد بالموقف مجموعة من العواطف والمعتقدات والسلوكيات تجاه شيء أو شخص أو حدث معين). بسبب المواقف والانحيازات الضمنية، يعمم الناس في كثير من الأحيان صفات أو خصائص معينة على جميع الأعضاء الذين ينتمون إلى مجموعة محددة، وهي ظاهرة تُعرف باسم التنميط (Stereotyping).
من المهم تذكر أن الانحيازات الضمنية تعمل بشكل شبه كامل على مستوى اللاوعي. وفي حين تكون “الانحيازات الصريحة (الواعية) (explicit biases)” والأحكام المسبقة مقصودة ويمكن السيطرة عليها، يكون هذا أقل عندما يتعلق الأمر بالانحيازات الضمنية.
قد يعبر الشخص عن رفض صريح لموقف أو معتقد معين، في حين أنه يخفي انحيازات معارضة لموقفه على مستوى اللاوعي. وليس بالضرورة أن تتوافق تلك الانحيازات مع إحساسنا الذاتي وهويتنا الشخصية..
في كثير من الحالات، يمكن للناس أن يكوّنوا روابط ذهنية إيجابية أو سلبية على علاقة بعرقهم، جندرهم، دينهم، جنسانيتهم أو أي خصائص شخصية أخرى.
أسباب الانحياز الضمني
يحبذ الكثير من الناس الاعتقاد بأنهم بعيدون كل البعد عن مثل هذه الانحيازات والصور النمطية. لكن الحقيقة هي أن الجميع ينخرط فيها سواء أحب ذلك أم لا.
لكن، التنميط لا يعني بالضرورة أنك متعصّب أو تميل إلى التمييز ضد الآخرين. فالتنميط يعني ببساطة أن عقلك يعمل بطريقة تخلق مثل هذه الارتباطات والتعميمات.
بالإضافة إلى حقيقة أننا نتأثر ببيئتنا وبالقوالب النمطية الموجودة مسبقاً في المجتمع الذي ولدنا فيه. لذا من المستحيل أن ننأى بأنفسنا عن تأثير التنميط علينا.
يمكنك بالطبع أن تصبح أكثر إدراكاً لتفكيرك اللاواعي، وبالطرق التي يؤثر بها المجتمع عليك.
يميل الدماغ البشري بشكل طبيعي إلى غربلة المعلومات حول العالم وفرزها وتصنيفها ما يقود إلى تشكيل هذه الانحيازات الضمنية.
نحن عرضة للانحياز للأسباب التالية.
نميل إلى البحث عن الأنماط
تحدث الانحيازات الضمنية نتيجةً للميل الطبيعي للدماغ نحو البحث عن الأنماط والارتباطات الموجودة في العالم.
الإدراك الاجتماعي (Social Cognition)، أو بمعنى أدق قدرتنا على تخزين ومعالجة وتطبيق المعلومات حول الأشخاص في المواقف الاجتماعية يعتمد بشكل أساسي على هذه القدرة لتكوين روابط ذهنية حول العالم وبالتالي بشكل أو بآخر يستخدم التنميط.
نحب أن نعتمد على الاختصارات
تماماً كالانحيازات المعرفية الأخرى، فإن الانحياز الضمني هو نتيجة محاولة الدماغ لتبسيط العالم. وبسبب تدفق المعلومات المستمر إلى الدماغ وبكمية أكثر بكثير مما يمكن تخيلها، فإن الاختصارات العقلية تجعل فرز هذا الكمّ من المعلومات أسهل وأسرع بالنسبة للدماغ.
تلعب التجارب والتكيف الاجتماعي دوراً
على الرغم من أن المواقف المتعلقة بالانحياز الضمني قد لا تكون نتيجة تجربة شخصية مباشرة، فإن الانحيازات الضمنية تتأثر بالتجارب.
كما يمكن أن يساهم التكيف الثقافي والتصوير الإعلامي والتنشئة في الارتباطات الذهنية الضمنية التي يشكلها الناس حول أعضاء المجموعات الاجتماعية الأخرى.
اختبار المواقف الضمنية
أول من صاغ مصطلح الانحياز الضمني هما عالما النفس الاجتماعي ماهزرين باناجي (Mahzarin Banaji) و طوني غرينوالد (Tony Greenwald) عام 1995. وذلك في ورقة بحثية بارزة تقدم نظريتهما عن الإدراك الاجتماعي الضمني، طرحا فيها أن السلوك الاجتماعي يتأثر إلى حد كبير بالارتباطات الذهنية والأحكام اللاواعية.
في عام 1998، نشر باناجي و غرينوالد اختبارهما المشهور الآن والمسمى اختبار التداعيات الضمنية (أو اختبار الترابط الضمني) (Implicit Association Test /IAT) لدعم فرضيتهما.
يستخدم الاختبار برنامج كمبيوتر يظهر للمستجيبين سلسلة من الصور والكلمات، ثم يحدد المدة التي يستغرقها شخص ما للاختيار بين شيئين.
في هذا البرنامج يُعرض أمام المشاركين صور لوجوه من خلفيات عرقية مختلفة، ومقترنةً مع كلمة إيجابية أو سلبية. ويُطلب منهم بعد ذلك النقر فوق كلمة إيجابية عندما يرون صورة لشخص من عرق ما والنقر على كلمة سلبية عندما يرون شخصاً من عرق آخر.
تفسير النتائج
يقترح الباحثون أن سرعة النقر ترتبط بمدى قوة الرابط الذهني اللاواعي المتعلق بالعرق الذي تم تقييمه. وإذا نقر شخص ما بسرعة على كلمة سلبية في كل مرة يرى فيها شخصاً من عرق معين، فهذا يشير إلى أن لديه انحيازاً سلبياً ضمنياً تجاه الأفراد من هذا العرق.
بالإضافة إلى اختبار المواقف العنصرية الضمنية، استُخدم اختبار التداعيات الضمنية (IAT) أيضاً لقياس الانحيازات اللاواعية المتعلقة بالجندر، الوزن، الجنسانية، الإعاقة وجوانب أخرى.
زادت شعبية هذا الاختبار واستُخدم بكثرة على مدار العقد الماضي، إلا أنه تعرض مؤخراً لبعض الانتقادات. من بين الانتقادات الرئيسية الموجهة له تلك التي تفيد بأن نتائجه قد تفتقر إلى الموثوقية.
وليس من الغريب أن يسجل المستجيبون درجات عالية في الانحياز العنصري في أحد الاختبارات، ومنخفضة في المرة التالية التي يتم اختبارهم فيها.
ومما يثير الشكوك أيضاً أن الدرجات في الاختبار قد لا تتطابق بالضرورة مع سلوك الفرد. وقد يحصل الأشخاص على درجات عالية لنوع من الانحياز خلال الاختبار. ولكن هذه النتائج لا تتنبأ بدقة بكيفية ارتباطه بأعضاء مجموعة اجتماعية معينة.
علاقة الانحيازات الضمنية مع التمييز
من المهم أن نفهم أن هناك اختلافاً جوهرياً بين الانحياز الضمني والعنصرية، فعلى الرغم من أن المفهومين مرتبطان، هما مختلفان عن بعضهما. فالعنصرية الصريحة تنطوي على أحكام مسبقة واعية ضد أعضاء مجموعة عرقية معينة ويمكن أن تتأثر بالانحيازات الصريحة والضمنية على حد سواء.
تشمل الأشكال الأخرى للتمييز والتنميط التي يمكن أن تتأثر بالانحيازات الضمنية: التمييز على أساس العمر، التمييز على أساس الجنس، التمييز ضد ذوي الاحتياجات الخاصة، ورهاب المثلية الجنسية (كراهية المثلية الجنسية) (Homophobia).
إحدى الفوائد لإدراك التأثير المحتمل للانحيازات الاجتماعية الضمنية هي إمكانية القيام بدور أكثر فاعلية للتغلب على الصور النمطية الاجتماعية والتمييز والأحكام المسبقة.
تأثير الانحيازات الضمنية
يمكن أن تؤثر الانحيازات الضمنية على سلوك الفرد تجاه أعضاء المجموعات الاجتماعية. ووجد الباحثون أن التنميط ومثل هذه الانحيازات قد تخلّف تداعيات في الكثير من المجالات. بما في ذلك المدرسة والعمل وحتى الإجراءات القضائية.
تأثير الانحياز الضمني على المدرسة
يمكن أن يؤدي الانحياز الضمني إلى ظاهرة تُعرف باسم تهديد الصورة النمطية (Stereotype Threat). حيث يخلق الناس صورة نمطية سلبية عن أنفسهم بناءً على ارتباطات المجموعة التي ينتمون إليها. مثلاً، أظهرت الأبحاث أن الفتيات الصغيرات غالباً ما يشكلن مواقف ضمنية متعلقة بالجندر والأداء في الرياضيات.
وفي سن التاسعة، تبيّن أن الفتيات يحملن معتقدات لاواعية بأن الإناث يفضلن اللغة على الرياضيات. وكلما كانت هذه المعتقدات الضمنية أقوى، قل احتمال متابعة الفتيات والنساء لأدائهن في الرياضيات في المدرسة.
ويُعتقد أيضاً أن مثل هذه المعتقدات اللاواعية تلعب دوراً في منع النساء من السعي وراء مهن في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
كما أظهرت الدراسات أن المواقف الضمنية ذات تأثير على كيفية استجابة المعلمين لسلوك الطلاب. مشيرة إلى أن الانحياز الضمني يمكن أن يكون له تأثير قوي على عملية الوصول إلى التعليم والتحصيل الأكاديمي.
على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أن الأطفال ذوي البشرة السوداء – الذكور منهم على وجه الخصوص- تعرضوا أكثر للطرد من المدرسة بسبب مشاكل في السلوك.
وعندما طُلب من المعلمين مراقبة السلوكيات الصعبة (وهي الأفعال التي تعطل قدرة الطفل على التعلّم، أو التي تضر بالأطفال الآخرين كالصراخ في المدرسة مثلاً.)، فقد ركزوا على الأطفال السود أكثر من الأطفال البيض.
تأثير الانحياز الضمني في مكان العمل
في حين أن اختبار المواقف الضمنية نفسه قد يوجد به بعض الثغرات، إلا أن هذا لا ينفي وجود الانحياز الضمني أو وجود وتأثير الانحياز، الأحكام المسبقة والتمييز في العالم الواقعي، والتي قد تترك كلها عواقب حقيقية ومدمرة.
مثلاً، وجدت إحدى الدراسات أنه عندما أرسل مجموعة أشخاص من ذوي البشرة السوداء والبشرة البيضاء سيَراً ذاتية مماثلة لأرباب العمل بحثاً عن فرصة عمل. كان من المرجح استدعاء المتقدمين من السود للمقابلات بمقدار النصف مقارنة بأقرانهم البيض ذوي المؤهلات المتساوية. ومن المحتمل أن يكون هذا التمييز نتيجة كل من الانحياز الصريح والضمني تجاه المجموعات العرقية.
حتى مع دأب أرباب العمل للتخلص من الانحياز المحتمل في التوظيف، يبقى تأثير الانحياز الضمني المتخفي حاضراً على طريقة اختيار الأشخاص للتوظيف أو ترقيتهم إلى مناصب أعلى. من الصعب تجنب مثل هذه الانحيازات تماماً، ولكن إدراك وجودها والسعي لتقليلها يمكن أن يساعد.
تأثير الانحياز الضمني على أوساط الرعاية الصحية
بالتأكيد، لا ينبغي أن يلعب العمر أو العرق أو الحالة الصحية دوراً في كيفية علاج المرض.، إلا أن الانحياز الضمني قد يؤثر على جودة الرعاية الصحية. كما أن له آثاراً طويلة المدى، بما في ذلك العناية غير المثالية والنتائج الوخيمة وحتى الموت.
على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات المنشورة في المجلة الأمريكية للصحة العامة أن الأطباء الذين سجلوا درجات عالية في الانحياز الضمني يميلون إلى الهيمنة على المحادثات مع المرضى السود. ونتيجة لذلك، شعر المرضى السود بثقة أقل بهم وقيموا مستوى رعايتهم درجة منخفضة.
يواصل الباحثون استكشاف الانحياز الضمني فيما يتعلق بالمجموعات العرقية الأخرى وكذلك الحالات الصحية المحددة. بما في ذلك مرض السكري من النوع الثاني، السمنة، الصحة النفسية واضطرابات تعاطي المواد المخدرة.
تأثير الانحياز الضمني على الأوساط القانونية
يمكن أن يكون للانحياز الضمني تداعيات مقلقة في الأوساط القانونية. إذ يؤثر على كل شيء بدءاً من المبادرة إلى الاتصال بالشرطة وصولاً إلى إصدار الأحكام. توصلت الأبحاث إلى أن هناك تبايناً عرقياً هائلاً في كيفية معاملة المتهمين السود في الأحكام الجنائية.
لا يقتصر الأمر على عرض صفقات اعتراف مقابل تخفيف العقوبة على المتهمين السود بشكل أقل من المتهمين بنفس الجريمة من البيض، بل هم أيضاً أكثر عرضة لتلقي أحكام أطول وأقسى.
الحد من الانحياز الضمني والتنميط
تؤثر الانحيازات الضمنية على السلوك، ولكن هناك أشياء يمكنك القيام بها لتقليل انحيازك:
- ركز على رؤية الناس كأفراد: فكر في الناس على مستوى شخصي وفردي أكثر. ولا تركز على الصورة النمطية التي تحملها حول مجموعة معينة لتعرف الأشخاص من حولك.
- اعمل على تغيير صورك النمطية على مستوى الوعي: إذا أدركت أن استجابتك لشخص ما قد تكون متجذرة في الانحيازات أو الصور النمطية الموجودة في ذهنك. فابذل جهداً لتعديل وتغيير استجابتك بوعي.
- خذ وقتك للتريث والتفكير بإمعان: من أجل تقليل ردود الفعل الانعكاسية، خذ وقتاً كافياً للتفكير في الانحيازات المحتملة واستبدلها بأمثلة إيجابية من مجموعة القوالب النمطية التي لديك.
- عدّل وجهة نظرك: حاول رؤية الأشياء من وجهة نظر شخص آخر. كيف سترد إذا كنت في نفس الموقف؟ ما هي العوامل التي قد تساهم في طريقة تصرف الشخص في بيئة أو موقف معينين؟
- قابل أشخاصاً مختلفين بشكل أكبر: اقضِ المزيد من الوقت مع أشخاص من خلفيات عرقية مختلفة. تعرف على ثقافتهم من خلال حضور الأحداث أو المعارض المجتمعية.
- مارس اليقظة الذهنية: جرب التأمل، اليوغا، التنفس الموجّه والمركّز لزيادة اليقظة الذهنية ومستوى الوعي بأفكارك وأفعالك.
خلاصة
يمكن أن تكون الانحيازات الضمنية مزعجة ومثيرة للمشاكل، لكن الواقع هو أنها جزء حتمي من الحياة. ربما الأمر المقلق أكثر هو أن مواقفك اللاواعية قد لا تتوافق بالضرورة مع معتقداتك العلنية.
وفي حين يميل الكثيرون إلى امتلاك انحياز ضمني يفضلون فيه مجموعتهم الخاصة. ليس من الغريب أن يحمل الناس انحيازاً ضد مجموعتهم الاجتماعية نفسها.
الخبر السار هو أن هذه الانحيازات الضمنية ليست منقوشة على حجر (غير ثابتة). فحتى لو كنت تحمل انحيازات لاواعية ضد مجموعات أخرى من الناس، فمن الممكن أن تتبنى مواقف جديدة، حتى على مستوى اللاوعي.
لا يعد هذا الأمر عملية سريعة أو سهلة، ولكن إدراكك لوجود هذه الانحيازات يعد خطوة بداية موفقة نحو التغيير.
اقرأ أيضاً: الانحيازات المعرفية، أسباب حدوثها وبعض الأنواع الشائعة
اقرأ أيضاً: 6 انحيازات معرفية شائعة وأمثلة عنها
اقرأ أيضاً: تأثير دانينغ كروجر (وهم التفوق)، أسبابه وتأثيراته النفسية
المصدر: ?How Does Implicit Bias Influence Behavior
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم