التحليل التفاعلي ويسمى أيضاً التوافق النفسي أو تحليل المعاملات الانسانية هو شكلٌ من أشكال علم النفس الحديث الذي صُمِمَّ لعرض وتحليل الأداء السلوكي للأفراد وتفاعل الشخص مع بيئته.
طوَّر الطبيب إريك بيرن هذا النموذج النفسيّ من خلالِ تبنيّ نظريات سيغموند فرويد للشخصية وجمعها مع ملاحظاتهِ الخاصة حول التفاعل البشري.
أثناء العلاج النفسيّ، يُستَخدمُ التحليل التفاعلي (والمعروف أيضاً بـ تحليل المعاملات الانسانية أو تحليل الأداء السلوكي للأفراد) لمعالجة تفاعلات الفرد المتبادلة مع الآخرين بهدفِ إنشاء وتعزيز فكرة أنّ كل فرد لديه الأهمية والقدرة على التغيير الإيجابيّ والنمو على الصعيدِ الشخصيّ.
نشأة التحليل التفاعلي
طوَّر الطبيب إريك بيرن التحليل التفاعلي (التوافق النفسي) في خمسينيات القرن الماضي، باستخدام “المعاملات” لوصف الوحدة الأساسية للتواصل الاجتماعي وبهذا يكون “التحليل التفاعلي أو التوافق النفسي” دراسة للتفاعلاتِ الإجتماعية بين الأفراد.
وقد تأثر الطبيب إريك أثناء تطويره لنموذجِ التحليل النفسيّ هذا بمعاصرينَ مثل رينيه شبيتز وإريك إريكسون وبول فيدرن و دواردو فايس وكذلك فرويد وويلدر بنفيلد (جرّاح أعصاب كنديّ).
استلهم بيرن من نظرية فرويد للشخصية في المقام الأول اعتقادهُ أن النفس البشرية متعددة الأوجه. وأن المكونات المختلفة تتفاعل لإنتاجِ مجموعة متنوعة من العواطف والمواقف والسلوكيّات المعقدة.
وفي المقام الثانيّ من تجاربَ بنفيلد الرائدة التي تنطوي على تحفيز مناطق معينة في الدماغ باستخدام تيارات كهربائية. وبهذا طوّرَ نهجاً وصفه إريك بيرن بنفسه أنه “فرويديٌّ إضافيٌّ جديد”.
وإدراكاً للحاجة إلى البناء على المفاهيم الفلسفية التي قدمها فرويد باستخدام بياناتٍ ملحوظة. طوَّر بيرن نظرية الأنا الخاصة به حول الأب والراشد والطفل عُقبَ نظرية فرويد النفسيّة عن وجود ثلاثةِ مكونات مختلفة للشخصية: الهو (المكون العاطفيّ) والأنا (العنصر العقلاني) والأنا العُليا (العنصر الأخلاقيّ).
وأحاط بيرن علماً أيضاً بتعقيدات التواصل البشري، حيثُ أبرزَ حقيقة أن تعبيرات الوجه والإيماءات ولغة الجسد ذات أهمية أكبر بالنسبة للمتلقيّ من أية كلماتٍ شفهية.
إذ لاحظ بيرن في كتابه “ألاعيبُ البشر”، أن الأشخاص قد يرسلون في بعض الأحيان رسائلَ غير لفظية تستندُ إلى دوافعٍ خفية.
دراسة حالات الشخصية “الأنا” في التحليلِ التفاعلي للطبيب إريك بيرن
افترض بيرن مثل فرويد أنَّ كلَّ فردٍ يمتلك ثلاث حالاتٍ من الأنا إلا أنَّ حالات الأنا الخاصة به (الأب والبالغ والطفل) لا تتوافقُ مباشرةً مع نظرية الهوية خاصة فرويد (الهو والأنا والأنا العُليا). بدلاً من ذلك، تمثلُ هذه الحالات النموذج الداخليّ للفرد من الآباء والبالغين والأطفال.
وقد يضطلع الفرد بأي من هذه الأدوار أثناء تعامله مع شخصٍ آخر أو في المحادثات الخاصة. ويجدرُ بنا ذكرُ أن هذه الأدوار لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بالتعاريف النمطية الخاصة باللغة الإنجليزية ولكن يمكن وصفها على النحو التالي.
دور “الأب”
يتكون هذا الدور من تسجيلات الذاكرة لأحداث خارجية لاحظها وعانى منها الطفل منذ ولادته وحتى السنوات الخمس الأولى من حياته تقريباً.
ونتيجةً لعدمِ تصفية الطفل لهذه التسجيلات أو تحليلها، تم قبولها دون تساؤلٌ أو شك. ومن المرجح أنّ العديد من هذه الأحداث الخارجية تمثلُ آباء الفرد أو غيرهم من البالغين في أدوار الروابط الأبوية. ما أدى إلى إطلاقِ بيرن على حالة الأنا هذا تسميةَ “الأب”.
إليك أمثلة على الأحداث الخارجية المسجلة في الذاكرة عن هذه الحالة:
- لا تلعب بأعواد الثقاب.
- تذكر قولَ “من فضلكم” و “شكراً لكم”.
- لا تتكلم مع الغرباء.
دور “الطفل”
وتشملُ هذه الحالة جميع تسجيلات الدماغ للأحداث الداخلية (المشاعر أو العواطف) المرتبطة بالأحداث الخارجية التي شهدها الطفل خلال السنوات الخمس الأولى من حياته. ومن أمثلة الأحداث المسجلة في هذه الحالة ما يلي:
- أشعر بالسعادة عندما تعانقني أمي.
- كان الفيلم الذي اختاره لنا أبي في وقت متأخر من الليل مخيفاً جداً.
- أشعر بالحزن على أسى أمي.
دور “البالغ”
هذه هي الفترة التي يطور فيها الطفل قدرته على إدراك وفهم المواقف التي تختلف عما يلاحظه في حالة (الأب) أو ما يشعر به في حالة (الطفل).
تعملُ حالة “البالغ” كمركزٍ لمعالجةِ البيانات الذي يُستخدم المعلومات التي سُجلت في فترات حالات “الأنا” الثلاثة من أجل التوصل إلى قرار.
ويتمثل أحد الأدوار الهامة لحالة “البالغ” في التحقق من صحة البيانات المخزنة في حالة “الأب”. على سبيل المثال: أرى أنَّ منزل سوزي احترق وأمي كانت محقة لا يجب أن ألعب بأعواد الثقاب.
التواصل باستخدام نظرية التحليل التفاعلي
تبدأُ جميع المعاملات الإنسانية (التوافق النفسي) باستخدام التحفيز التعاملي، ويعني هذا وجود أي دلائل (كلام أو إيماءات أو إشارات غير لفظية أخرى).
إذا التقى شخصان ببعضهما … عاجلاً أم آجلاً، سيتحدث أحدهما أو يعطي بعض المؤشرات اللفظية أو غير اللفظية وهذا ما يُعرف باسم مُحفز الاستجابة التعامليّ .ومن ثم يقول الشخص الآخر شيء ما أو استجابة ما ويسمى ذلك الاستجابة للمُحفز التعاملي.
يكمن مفتاح التواصل الناجح بين الأشخاص بشكل عام في تحديد حالة الأنا (في المتحدث) التي أطلقت التحفيز التعاملي وحالة الأنا (في المتلقي) التي قدمت الاستجابة التعاملية.
وبالنظرِ للطبيعة العقلانية لحالة “البالغ”، يعتقد بيرن أن أسهل وأبسط المعاملات الإنسانية تحدثُ بين حالات الأنا للبالغين، لكن من الممكن حدوث المعاملات الإنسانية بين أي من حالات الأنا الثلاث.
في معاملة إكماليّة، يتم توجيه استجابة المعاملة من المتلقي إلى حالة الأنا المرسلة في المتكلم. على سبيل المثال إذا أرسل الشخص “البالغ” في المتكلم محفزاً للمعاملة إلى حالة “الطفل” لدى المُستقبِل. فإن المعاملة لن تكتمل إلا إذا قام “الطفل” لدى المُستقبِل بإرسال الاستجابة للمعاملة إلى “البالغ” في لدى المُستقبِل. ووفقاً لبيرن، تستمرُ عمليات التواصل إذا بقيت المعاملات إكماليّة.
تحدث المعاملة المُختلة عندما تقوم حالة “الأنا” التي لم تتلقَ المُحفز التعاملي بإرسال الاستجابة التعاملية وقد تؤدي المعاملات المتقاطعة إلى تعطل الاتصالات الإنسانية، وهو ما قد يعقبُهُ أحياناً نزاع.
الرغبة الشديدة نحو الاعتراف بالذات
على سبيل المثال قد ترسل حالة “البالغ” لدى فرد ما محفزاً تعاملياً إلى حالة “البالغ” في فرد آخر. وتسأل “هل رأيت معطفي؟” ولكن حالة “الطفل”. في الفرد الثاني الذي تم سؤاله، قد ترسل بدلاً من ذلك الاستجابة العملية إلى “الأب” في الفرد الأول من خلال الإجابة، “أنت تلومني دائماً على كل شيء!”
لا يعد التواصل جانباً هاماً من جوانب الحياة اليومية فحسب. بل يُعتقد أيضاً أنه جزء لا يتجزأ من الوجود البشري حتى الأطفال حديثي الولادة يظهرون الحاجة إلى الاعتراف بهم.
أظهرت الأبحاث التي أجراها سبيتز أن الرُّضَع الذين لم يتلقوا احتضاناً بشكلٍ كافي كانوا أكثر عرضة للتحديات الجسدية والعاطفية.
وصف بيرن هذه الحاجة الفطرية للاعتراف الاجتماعي بالذات بـ “الرغبة الشديدة نحو الاعتراف بالذات” وحدد الوحدة الأساسية للعمل الاجتماعي أو الاعتراف الاجتماعي بالنفس بأنه “الاهتمام”.
من وجهة نظر بيرن، أظهر الأطفال المتضررين سلباً في دراسات سبيتز عجزاً جسدياً وعاطفياً بسبب نقص الاهتمام. وطبق بيرن هذه النظرية على البالغين واضعاً في الاعتبار أن الرجال والنساء يعانون أيضاً من التوق للاعتراف بالذات والحاجة إلى تلقي الاهتمام.
في حين أن الرضع قد يرغبون في الاهتمام الجسدي، قد يشعرُ البالغون بالرضا مع أشكال أخرى من أشكال الاعتراف الاجتماعي بالذات مثل الإيماءات والغمزات أو الابتسامات.
قد تكون هذه “الاهتمامات” إيجابية أو سلبية. إلا أن بيرن افترض أنه من الأفضل تلقيها بشكلٍ سلبي من عدم حدوثها على الإطلاق.
على سبيل المثال عندما يطلب شخصٌ من الآخرَ الخروج في موعد ويتلقى رفضاً صريحاً. قد يجد هذا الشخص أن الرفض أقل ضرراً من عدم الاعتراف الاجتماعي التام به.
التحليل التفاعلي والعلاج النفسي
يهدف التحليل التفاعلي (التوافق النفسي) إلى مساعدة الفرد في العلاج على اكتساب والحفاظ على الاستقلالية من خلال تعزيز حالة “البالغ”.
عادةً، يقوم الفرد والمعالج بإنشاء عقدٍ يحدد النتيجة التي يرغب الفرد في تحقيقها في العلاج. ويساهم هذا في أخذ الفرد على عاتقه المسؤوليةَ الشخصية عن ما قد يحدث أثناء العلاج.
باستخدام التحليل التفاعلي (التوافق النفسي أو تحليل المعاملات الانسانية) في العلاج النفسيّ يصبح الفرد بشكل عام أكثر قدرةً على الاعتماد على حالات الأنا البالغة لتحديد وفحص الأفكار والسلوكيات والعواطف المختلفة التي قد تعوق القدرة على الازدهار بالنفس.
تتسم الأجواء التي تدعم تحليل المعاملات بالراحة والأمن والاحترام وتشكيل علاقة إيجابية بين المعالج والشخص الذي يبحث عن العلاج. غالباً ما يوفر نموذجاً للعلاقات اللاحقة التي تطورت خارج مجال العلاج.
يستخدم المحللون الذين يمارسون هذا النوع من العلاج بشكل عام مجموعة واسعة من الأدوات التي تم جمعها من العديد من التخصصات. بما في ذلك العلاج الديناميكي النفسي والسلوكي المعرفي وعلاج العلاقات.
من قد يستفيد من تحليل المعاملات الإنسانية؟
كثيراً ما يتم تطبيق هذا النموذج من التحليل النفسي في مجالات الطب والاتصالات والتعليم وإدارة الأعمال وكذلك العلاج.
وقد جذبت هذه التقنية السائدة الآباء والمهنيين والأخصائيين الاجتماعيين وغيرهم ممن يسعون جاهدين لتحقيق أقصى تنمية على الصعيد الشخصي. إذ يُعد تحليل المعاملات وسيلة فعالة لتعزيز العلاقات البشرية مع الذات ومع الآخرين.
تشيرُ الدراسات إلى أن التحليل التفاعلي (تحليل المعاملات الانسانية / تحليل الأداء السلوكي للأفراد). الذي غالباً ما يتم استخدامهُ من قبل المستشارين والأطباء لمعالجة القضايا التي يواجهها الشخص في العلاج. قد يكون أداة فعالة في علاج الصعوبات العاطفية التي تطورت نتيجةً للتحديات الصحية المزمنة.
أيضاً يُستخدم التحليل التفاعلي (تحليل الأداء السلوكي للأفراد) على نطاق واسع في المجال التعليمي. حيث تمثلُ هذه التقنية وسيلةً يمكن من خلالها دمج المبادئ والفلسفة التعليمية في الحياة اليومية للطلاب.
ويمكن وصف هذا النوع من العلاج للأطفال والبالغين من جميع الفئات العمرية، بغض النظر عن الظروف الاجتماعية.
اقرأ أيضاً: التحليل النفسي بين الماضي والحاضر وتاثيره على علم النفس
اقـرأ أيضاً: العلاج باستخدام التحليل السلوكي التطبيقي
اقرأ أيضاً: العلاج النفسي التحليلي، تقنياته، فوائده وفعاليته
المصدر: Transactional Analysis
تدقيق: هبة محمد
تحرير: جعفر ملحم