هل سمعت أياً من هذه الأقوال الشعبية؟ “المسامحة لك وليست للشخص الآخر.” “لا تدع شخصاً يستحوذ على مساحة تفكير في رأسك.” “عليك أن تسامح حتى تتمكن من المضي قدماً.” هل تصدقهم؟ عندما يكون الأمر يخص التعافي من الصدمات، ربما لا يجب عليك ذلك. قد تكون المسامحة والغفران مشكلة عند دمجها في علاج الصدمات والتعافي من الصدمة النفسية.
لقد قيل أن التسامح يمكن أن يساعد الناجين على “المضي قدماً” أو “التخلص” من آلام ماضيهم. ويعتقد البعض أنه يجب عليك مسامحة أولئك الذين تسببوا في الصدمة أو ساهموا فيها من أجل التعافي. ومع ذلك، لا يوجد دليل إحصائي يشير إلى صحة ذلك.
تقول أماندا آن غريغوري (Amanda Ann Gregory)، استشارية سريرية معتمدة: “بعد أكثر من عقد من العمل كطبيب نفسي متخصص في الصدمات، شاهدت فوائد التسامح عند العديد من مرضاي.
ومع ذلك، لا أعتقد أن التسامح والغفران مطلوبان من أجل التعافي من الصدمة، فقد عالجت العديد من الناجين من الصدمات الذين شفوا دون مسامحة المعتدين.
علاوة على ذلك، لقد تعلمت أن فرض أو تشجيع التسامح يمكن أن يكون ضاراً للناجين من الصدمات ويخلق عقبات في طريق تعافيهم.”
فيما يلي الأسباب التي تجعل التسامح والمغفرة أمراً غير مفروض في عملية التعافي من الصدمة النفسية.
المغفرة تقلل من الأذى والظلم مما يعرقل سلامة الناجين ويصعّب الشفاء من الصدمة
تخيل أن أحدهم قال أنك يجب أن تسامح شخصاً أساء إليك. لا يهم ما كان الموقف أو تأثيره عليك؛ يجب أن تسامحه. عندما تسعى للحصول على دعم اجتماعي، يقال لك أشياء مثل، “كان هذا منذ سنوات، دعه يذهب” و “لا يجب أن تشعر بالغضب؛ استمر.”
تفتقر هذه الرسائل للقبول وحتى التعاطف من جانب أولئك الذين يعبرون عنها. وقد تجعلك تشعر كما لو أن تصوراتك وعواطفك وتجاربك غير جائزة أو خاطئة أو مُضلَّلة. وقد يشيرون إلى أن ألمك أو غضبك المبرر هو ببساطة أقل أهمية من قدرتك على مسامحة الشخص الذي أساء إليك.
يعتبر القبول مكوناً مهماً لتعزيز سلامة الناجين من الصدمات والحفاظ عليها، والسلامة مطلوبة من أجل معالجة الصدمات والتعافي من الصدمة النفسية. يؤدي الفشل في قبول التجارب التي يعيشها الناجون من الصدمات والتأكيد عليها أو رفض ذلك إلى خلق بيئات وعلاقات ضارة بقدرتهم على التعافي أو القدرة حقاً على “المضي قدماً”.
تركز المسامحة على المعتدي بدلاً من الناجي
“المسامحة لأجلك، وليست لأجل الآخر”، هي مقولة شائعة وحسنة النية. ومع ذلك، فإن العبارات الشائعة لا تتماشى جيداً مع التعافي والشفاء من الصدمة النفسية، إذ يركز التسامح على العلاقة التي تربط الضحية بالشخص الذي أساء إليها.
في المقابل، يجب أن يركز الشفاء من الصدمة على علاقة الناجي بنفسه.
يركز علاج الصدمات على الاحتياجات الفردية والعمليات الداخلية للناجي. إذا كان للناجي أي نوع من العلاقة مع المعتدي، يتم التعامل مع هذه العلاقة، ولكن من خلال الاحتياجات والمصالح الفضلى للناجي.
قد يستفيد بعض الناجين من مسامحة من أساء لهم. لكن البعض الآخر إما لا يحصلون على مثل هذه الفائدة، أو قد يشعرون في الواقع بالحاجة إلى الامتناع عن التسامح ويجب أن يؤخذ كلا الموقفين باحترام وتعاطف.
على عكس ذلك، المواقف الأخلاقية ليست مضادة للعلاج فقط، بل تميل إلى تركيز المعتدي على حساب الضحية. مما يعني أن مسؤولية تصحيح خطأ الماضي يجب أن يتحملها الأخير (الضحية)، وليس الأول (المعتدي)،
وفي بعض الحالات حتى الإيحاء بأن الفشل في المغفرة هو بحد ذاته خطأ. وبالتالي تحويل الانتباه واللوم بعيداً عن الخطأ الحقيقي المتمثل في ارتكاب الأذى والتسبب بالصدمة نفسها بدلاً من المساعدة في التعافي من الصدمة النفسية.
الغفران يلوم الناجين ويديم العار
غالباً ما ينشأ الشعور بالعار ويتم التأكيد عليه نتيجة الصدمة ويعتقد الناجون أنهم “غير محبوبين” ، وليسوا “جيدين بما فيه الكفاية” ، أو “أغبياء” ، “غير قادرين” ، “ضعفاء” ، أو “سيئين” ، أو أنهم لا يستطيعون العيش بأمان في العالم.
باختصار، غالباً ما يلوم الناجون أنفسهم على الصدمات التي تعرضوا لها، والتركيز الشديد على قيمة التسامح يساهم في ثقافة لوم الضحية التي تشرّبها العديد من الناجين للأسف.
يمكن أن يُنظر إلى مطالبة الناجي من الصدمة التسامح مع من أساء إليه على أنه إلقاء لوم أفعال المعتدي على الناجي. أو في بعض الحالات على أنه يوحي بتكافؤ مزيف بين الخطأ الذي ارتكبه المعتدي و”الخطأ” المفترض للناجي الذي يفشل في مسامحة المعتدي أو يرفضها.
يؤدي هذا إلى تفاقم الشعور بالخزي وتأكيد وجهات نظر المعتدين أكثر من الناجين.
ضع في اعتبارك هذا: يعتقد الطفل أنه طفل “سيء” لأن والدته تصرخ وتضربه.. كشخص بالغ، يعتقد أنه “شخص سيء”، مما يؤثر سلباً على تقديره لذاته وعلاقاته مع الآخرين.
ثم يقول أحد الأقارب: “كان ذلك منذ سنوات ، يجب أن تسامحها”. إذا كان هذا الشخص البالغ لا يستطيع أن يغفر (وهو أمر شائع عندما تكون تجارب الصدمة غير معالجة). يكون هذا العجز بمثابة تأكيد إضافي على أنه بالفعل “شخص سيء”.
الغفران يشجع على الصمت ويعرقل الشفاء من الصدمة
عندما تسامح شخصاً ما، لا تدرك غالباً الحاجة إلى مناقشة أو معالجة الموقف بشكل أكبر. ضع في اعتبارك موقفاً قد غفرت فيه حقاً لشخص ما، كم مرة تحتاج إلى مناقشة هذا الحادث معه أو مع نفسك؟ تميل إلى أن تكون نادرة.
في الواقع، من العلامات الشائعة على أنك لم تسامح شخصاً ما هي حاجتك لمواصلة مناقشة الحادث (الحوادث). نتيجة لذلك، غالباً ما تحمل المسامحة توقعاً لأنفسنا وللآخرين بأنه لن تكون هناك حاجة إلى الكثير من النقاش حول الموضوع في المستقبل، وقد يغرس شعوراً زائفاً بالتصالح أو الوصول إلى تسوية ونهاية للحدث.
يحتاج الناجون من الصدمات إلى أن يكونوا قادرين على الكشف عن قصص الصدمات ومشاركتها كلما دعت الحاجة، لأن هذا جزء حيوي من التعافي.
عندما نسامح تحت الضغط، قد نشعر كما لو أننا لا نحتاج إلى مشاركة أو استكشاف قصتنا مع الصدمة أو لا يجب أن نستمر في ذلك، مما يعيق قدرتنا على المعالجة والتعافي.
علاوة على ذلك، يمكن أن يعيق التسامح قدرة الناجي أو استعداده للإبلاغ عن الجناة. لأن السعي إلى المساءلة القضائية أو تبرئة الذات أو العقاب غالباً ما يُنظر إليها على أنها مخالفة لـ “روح” التسامح.
يمكن استخدام التسامح كوسيلة لتجنب الشفاء
يمكن أن تكون المسامحة الطريق الأقل مقاومة، وهذا ليس بالأمر الجيد دائماً.علاج الصدمات مؤلم عاطفياً وأحياناً جسدياً.
لتجنب ألم معالجة الصدمة، قد تجبر نفسك على مسامحة الشخص الذي أساء إليك على أمل أن يتلاشى تأثيرها. ومع ذلك، فإن الراحة التي يشعر بها الفرد عادة ما تكون مؤقتة، إن وجدت في الأساس.
كتبت روزينا باكاري (Rosenna Bakari): “محاولة وقف الألم بالتسامح والغفران يشبه وضع علبة من خليط الكعكة في الفرن وتوقع الحصول على واحدة. هذا لا يعمل، ويمكن أن تحرق منزلك”.
باختصار، عليك أن تخلط جميع المكونات قبل أن تحاول خبز كعكة. والتعافي من الصدمات يتضمن العديد من المكونات المؤلمة مثل تجارب الحزن الشديد والغضب والعار والخوف وأحاسيس الجسم غير المريحة.
نحن لا نجادل في أنه لا ينبغي استخدام التسامح في علاج الصدمات. في الواقع، استفاد العديد من الناجين من مسامحة من يسيء إليهم، وقد لوحظت هذه الفوائد بشكل مباشر.
النقطة هنا هي في أنه لا ينبغي اعتبار التسامح أو الغفران مكوناً إلزامياً لأي عملية تعافي من الصدمات، أو كشرط أساسي “للمضي قدماً”. عندما تكون هناك حاجة إلى التسامح، فإنها تحدث بشكل طبيعي في عملية العلاج، دون الحاجة إلى إجبار أو تشجيع.
وهناك العديد من الناجين من الصدمات الذين لم يغفروا أبداً لمن أساؤوا إليهم. ومع ذلك حققوا تعافياً ناجحاً من الصدمات، وهو ما أفادوا بأنه يمنحهم إحساساً بالسلام والأمل في المستقبل.
اقـرأ أيضاً: ما هي الصدمة (Trauma)؟ وما أسبابها؟ وهل يمكن التأقلم معها؟
اقـرأ أيضاً: نمو ما بعد الصدمة، فوائده، وكيفية بلوغه
اقرأ أيضاً: الصدمة الثانوية، أعراضها، أسبابها، علاجها وكيفية التأقلم
المصدر: Why Forgiveness Isn’t Required in Trauma Recovery
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم