الحديث الذاتي السلبي مع النفس هو حديث يختبره معظمنا من وقت لآخر كما يمكن له أن يأخذ أشكالاً عديدة (مثل لوم الذات) ولا يقتصر تأثيره علينا فقط بل على الذين من حولنا أيضاً. إذ أنه سيخلق ضغوطاً كبير بالنسبة لنا ولهم إن لم نكن حذرين.
بداخلنا جميعاً ذاك الصوت الخفيف الذي يحفزنا في بعض الأحيان على تحقيق ما نسعى إليه من أهداف. كأن يذكرنا أن الطعام الذي على وشك أن نتناوله ليس صحياً أو الفعل الذي نحن بصدد القيام به ليس حكيماً.
إن ذاك الصوت ما هو إلا ناقد داخلي يقبع في نفوسنا. لكن يجب الحذر إذ أنه قد يكون ذو تأثير سلبي أكثر من كونه إيجابي، خصوصاً إذا ما دخل حقل السلبية المفرطة عندها يسمى ذاك الصوت بالحديث الذاتي السلبي، عندها قد يؤدي بنا إلى الإحباط بالفعل.
في هذة المقال سنتحدث عن كل ما تحتاج معرفته حول الحديث الذاتي السلبي وتأثيراته على جسمك وعقلك وحياتك وأحبائك.
ما هو الحديث الذاتي السلبي؟
كما ذكرنا سابقاً يمكن للحديث السلبي مع الذات أن يأخذ أشكالاً عديدة. أحدها أن يبدو وكأنه شيء ثابت وراسخ في لوم الذات كقول: “أنا لست جيداً في هذا، لذلك يجب أن أتجنب المحاولة من أجل سلامتي الشخصية”. وهو ما يعني بصريح العبارة “لا يمكنني فعل أي شيء بشكل صحيح!”.
وأيضاً قد يبدو وكأنه تقييم واقعي للموقف، مثلاً: “حصلتُ على درجة ضعيفة في هذا الاختبار، أعتقد أنني لست جيداً في الرياضيات”. وعندها سيؤول الأمر إلى مخاوف خيالية (لن أكون قادراً على الذهاب إلى كلية جيدة مطلقاً”.
إذا نظرنا عن كثب إلى هذا الناقد الداخلي وتأملناه سنلاحظ أنه يشبه إلى حد كبير شخصاً قام بتوجيه نقد لنا في الماضي كالأب أو الصديق. أو يمكن أن يندرج تحت أحد التشوهات المعرفية النموذجية (cognitive distortions) (عبارة عن أنماط من التفكير أو الاعتقاد يقوم فيها الدماغ بتدوير الأحداث وتفسيرها بشكل غير موضوعي.) مثل: التهويل ولوم الذات وما شابه.
بشكل أساسي الحديث السلبي مع النفس هو أي حوار داخلي يجري مع الذا.ت ويمكن أن يحد من قدرتك على الإيمان بنفسك وقدراتك، والوصول إلى إمكاناتك.
كما أنه أي فكرة تُخالجك ويمكن لها أن تقلل من قدرتك على إجراء تغييرات إيجابية في حياتك أو تقلل من ثقتك بنفسك للقيام بذلك. لذا فإن الحديث السلبي مع النفس يمكن أن يعيق نجاحك إضافةً إلى أنه مرهق للغاية.
عواقب الحديث الذاتي السلبي
للحديث السلبي مع الذات تأثيرات مدمرة للغاية علينا. إذ وجدت إحدى الدراسات التي تم إجراؤها على نطاق واسع أن زيادة خطر الإصابة بمشكلات الصحة العقلية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بكل من اجترار الأفكار ولوم الذات على الأحداث السيئة.
كما أن التركيز على الأفكار السلبية سينتج عنه انخفاض الدافع وكذلك زيادة الشعور بالعجز. ومن الجدير بالذكر أنه إذا وصل الحوار الداخلي إلى نقطة حرجة فسيكون له دور كبير في ظهور الاكتئاب. لذا يجب العمل على إدراك الأمر وإصلاحه قبل فوات الأوان.
يميل الأشخاص الذين ينخرطون كثيراً في لوم الذات إلى أن يكونوا أكثر توتراً. وهذا يعود إلى حقيقة أنهم قد بدلوا واقعهم وخلقوا تجربة عوضاً عنه لا يملكون فيها القدرة على الوصول إلى الأهداف التي حددوها لأنفسهم.
وأيضا يمكن أن يؤدي هذا الحديث السلبي إلى انخفاض القدرة على رؤية الفرص، فضلاً عن انخفاض الميل للاستفادة من هذه الفرص. وهذا يعني أن الشعور المتزايد بالتوتر ينبع من كل من الإدراك والتغيرات في السلوك التي تأتي منه. كما يوجد عواقب أخرى للحديث السلبي مع النفس ولوم الذات وتشمل ما يلي.
الكمالية والتفكير المحدود
كلما أخبرت نفسك أنه ليس باستطاعتك القيام بشيء ما، صدقت ذلك أكثر، هذا هو التفكير المحدود. أما الكمالية هي أن تبدأ في اعتقاد أن ما هو “جيد” ليس بكفاءة ما هو “مثالي”، وأن الكمال غاية تُدرك.
في حين أن الأشخاص الجيدون يظهرون أداء أفضل من نظرائهم المثاليين وذلك يعود لكونهم أقل توتراً وراضيين بعمل جيد. فهم لا ينتقدون الأشياء أو يصبّون تركيزهم على ما كان يمكن أن يكون أفضل.
الشعور بالاكتئاب ومشاكل في العلاقات
أظهرت بعض الأبحاث أن الحديث السلبي مع النفس إذا تم التغاضي عنه وتُرك بدون رادع سيؤدي إلى تفاقم مشاعر الاكتئاب، وهذا ضارّ للغاية.
إن قلة التواصل ومقدار “العبث” من النقد سيكون لهما تأثير سلبي كبير وذلك في حال كان النقد الذاتي المستمر يجعلك تبدو متطلباً وغير آمن. أو إن تحول حديثك السلبي مع نفسك إلى عادات سلبية عامة تزعج الآخرين.
أحد أكثر العيوب وضوحاً لـ لوم الذات للحديث السلبي هو أنه ليس إيجابيّاً، وهذا بديهي. كما أظهرت الأبحاث أن الحديث الإيجابي مع الذات هو مؤشر عظيم للنجاح.
كمثال على ذلك، قارنت إحدى الدراسات التي أجريت على الرياضيين بين أربعة أنواع مختلفة من الحديث الذاتي (تعليمي وتحفيزي وإيجابي وسلبي.) ووجدت أن الحديث الإيجابي مع النفس كان أكبر مؤشر للنجاح.
وهذا ما يوصلنا إلى حقيقة أن الإنسان لا يحتاج إلى تذكير نفسه بكيفية القيام بشيء ما بقدر ما يحتاج أن يقول لنفسه أنه ما يفعله رائع ومن حوله يقدرون ويلاحظون جهده.
كيفية تقليل الحديث الذاتي السلبي
يوجد العديد من الطرق لتقليل الحديث الذاتي السلبي في حياتك اليومية. لكن يجب التنويه إلى أن بعض الاستراتيجيات المختلفة تعمل بشكل أفضل مع تفاوت الأشخاص. لذا جرب القليل منها واعرف أيها أكثر فعالية بالنسبة لك.
اضبط النقد بداخلك
درب نفسك على ملاحظة متى تنتقد نفسك وذلك لتتمكن من البدء في التوقف عن ذلك. مثلاً، انتبه عندما تقول لنفسك أشياء لن تقولها لصديق مقرب أو لطفل.
تذكر أن الأفكار والمشاعر ليست دائماً حقيقة
قد يبدو لك للوهلة الأولى أن التفكير في أشياء سلبية عن نفسك بمثابة ملاحظات ذكية. لكن أفكارك ومشاعرك تلك لا تُعد معلومات دقيقة.
إذ أنها قد تكون مشوهه، تماماً كأفكار أي شخص آخر وبالتأكيد لن تكون موضوعية بل ستكون متحيزة كما أنها ستؤثر بشكل كبير على مزاجك.
امنح ناقدك الداخلي لقباً
كانت هناك شخصية في برنامج يدعى “Saturday Night Live” معروفة باسم ديبي دونر (Debbie Downer)، هذه الشخصية قادرة على استخلاص السلبية من أي موقف.
إن حدث وكان ناقدك الداخلي يدفعك لفعل ذات الشيء، فيمكنك قول، “ديبي دونر تفعل ذلك مجدداً”. في هذه الحالة أنت ستفكر في ناقدك الداخلي على أنه قوة خارجة عن نفسك.
وحتى ستمنحه لقباً أخرق إلى حد ما وهذا ما سيسهل لك إدراك أنك لست مجبراً على تأييد ذاك الصوت. علاوةً على ذلك سيصبح أقل تهديداً وسيسهّل رؤية مدى سخافة البعض من أفكارك النقدية.
احتواء سلبيتك يساعدك على احتواء الحديث الذاتي السلبي
في حال وجدت نفسك تخوض حديثاً سلبياً مع ذاتك، قم بالسماح لناقدك الداخلي بانتقاد أشياء معينة فقط من حياتك أو حدد له وقتاً كأن تقول “ساعة سلبية واحدة فقط في اليوم”.
سيكون ذلك بمثابة عون كبير لك لاحتواء مقدار الضرر الذي يمكن أن يسببه الناقد وستضع حدّاً لمقدار السلبية النابعة من الموقف.
تغيير السلبية إلى الحيادية
قد يكون من السهل إلى حد ما إدراك متى تخوض حديثاً سلبياً مع نفسك إلا أنه من الصعب أحياناً أن توقف دفق الأفكار الذي يلي ذاك الحديث.
في هذه الحالة يمكنك اعتماد أسلوب تغيير الشدّة اللغوية أي استخدام ألفاظاً أكثر رقّة، مثلاً بدلاً من قول “لا أستطيع تحمل هذا.” يمكن قول، “هذا أمر صعب”. “أنا أكره ..” استبدلها بعبارة، “لا أحب ..” أو، “لا أفضل ..” بهذه الطريقة أنت تخمد مقدار القوة السلبية الناجمة.
قم باستجواب ناقدك الداخلي
على اعتبار أن ذاك الحديث يجري في رأسك، لن يكون الآخرين على دراية بما تقوله. وبالتالي لا يمكنهم إخبارك بمدى خطأك، وهذا هو أحد أكثر الجوانب ضرراً للحديث السلبي مع النفس وهو أنه غالباً يحدث دون رادع.
لذا من الأفضل أن تنتبه لحديثك الذاتي السلبي وتسأل نفسك عن مدى صحته. كما أن إدراكك حقيقة أن الغالبية العظمى من الحديث السلبي مع النفس مبالغ فيه. سيساعدك بشكل فعّال في التخلص من تأثيره الضار.
فكر كصديق
عندما يكون ناقدك الداخلي في أسوأ حالته، سيغدوا أسوأ عدو قد تواجهه ويدفعك لقول أشياء عن نفسك لم تكن لتقولها مطلقاً لصديق.
إذا لم لا تستفيد من ذلك وتقلب الأمور، تخيل أنك تقول تلك العبارات السلبية لصديق عزيز، لن تقولها بتلك الطريقة، صحيح؟.
إذاً ما عليك فعله هو أن تفكر في طريقة إيجابية لمشاركة تلك الأفكار مع صديق جيد وما تودّ أن يقوله لك ذاك الصديق.
غيّر وجهة نظرك إذا كنت تريد تقليل الحديث الذاتي السلبي
إن النظر إلى الأشياء على المدى الطويل سيساعدك على إدراك أنك ربما تركز تركيزاً شديداً جداً على شيء ما. على سبيل المثال، اسأل نفسك فيما إذا كان يمكن لشيء ما أن يزعجك في الوقت الراهن أن يكون ذو أهمية بعد مرور خمس سنوات أو حتى عام واحد.
كما أن نظرك إلى مشاكلك الشخصية من مسافة بعيدة وكأنها لا تخصك ومجرد تخيلك أنك تخلصت منها سيكون طريقة فعالة لتغيير منظورك الحالي حولها.
وعند تفكيرك بالعالم على أنه كون واسع بينما أنت شخص صغير جداً مقارنة به ستدرك حقيقة أن معظم مخاوفك ليست كبيرة كما تبدو. هذه الطريقة ستساعدك كثيراً في التقليل من السلبية والخوف وحتمية الحديث الذاتي السلبي.
قل الأفكار السلبية بصوتٍ عالٍ
عندما تدرك بأن هناك أفكار سلبية تدور في رأسك، ببساطة قلها بصوت عالٍ سيساعدك ذلك كثيراً. وأيضاً يمكنك مشاركتها مع صديق.
ستجد أن الأمر مضحك إلى حد ما إذ ستدرك مدى سخافة البعض من تلك الأفكار. كما أن ذلك الحديث الذي ستخوضه مع صديقك والذي تناقش به أفكارك السلبية عن ذاتك سيكون على الأقل بمثابة دعم لك.
إضافةً إلى ذلك فإن قول بعض العبارات بصوت عال لنفسك، سيذكرك كم أنها تبدو غير منطقية وغير واقعية. بهذه الطريقة ستدرك أنه عليك أخذ استراحة من كل هذه السلبية.
توقف عن هذا الفكر
قد يكون من المفيد للبعض أن يقوموا بإيقاف دفق الأفكار السلبية فور حدوثها وهذا ما يُعرف باسم “إيقاف التفكير”.
يمكن أن يتم إيقاف التفكير بطرق عديدة أحدها أن تعبث بشريط مطاطي حول معصمك مثلاً. وذلك في سبيل إلهائك عن التفكير قليلاً أو ببساطة تخيل علامة توقف. كما يمكنك الانتقال إلى فكرة أخرى عندما تراودك فكرة سلبية.
تلك الأساليب ستكون مفيدة بشكل كبير مع الأفكار المتكررة أو الانتقادية للغاية مثل: “أنا لست جيداً” أو “لن أتمكن أبداً من القيام بذلك”.
استبدل بالسيئ الجيد
تعتبر هذه الطريقة من أكثر الطرق فعالية للحدّ من الحديث السلبي مع النفس: جوهرها هو استبدال بالفكر السيء أفضل منه. بمعنى أدق أن تأخذ الفكرة السلبية وتحولها إلى شيء مشجع وصحيح. عليك تكرار ذلك حتى تشعر بأن حاجتك للقيام به تقل مع مرور الوقت.
ستجد أن هذة الطريقة رائعة لتطوير آلية أكثر إيجابية في التفكير حول نفسك وحول الحياة بالمجمل. كما أنها تعمل بشكل جيد مع معظم العادات السيئة كتناول الطعام غير الصحي بدلاً من الطعام الصحي مثلاً.
اقرأ أيضاً: أنماط تفكير في اضطراب القلق الاجتماعي يجب تجنبها
اقرأ أيضاً: تقدير الذات، ما العوامل التي يتأثر بها وكيف يمكن تحسينه؟
المصدر: The Toxic Effects of Negative Self-Talk
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم