عندما يتعلق الأمر بالمواقف الصعبة، يستخدم معظم الناس مجموعة من عبارات الدعم المتكررة التي تعلموها من الآخرين أو سمعوها من البرامج التلفزيونية والتي تنتشر على نطاق واسع بين ملايين الأشخاص؛ وقد يبدو في ظاهر الأمر أنه من الجيد استخدامها كل يوم. لكن، في بعض الحالات الخاصة مثل تعرض شخص للاعتداء أو تفكيره بالانتحار، قد يؤدي استخدام هذه العبارات في الحديث عن الانتحار إلى نتيجة عكسية. إذ تجعله يعتقد أنّ أصدقاءه لا يهتمون به وليسوا قريبين منه بشكل كافي.
حالات شخصية
قال أنتوني بوردين (Anthony Bourdain): “لماذا لم أكن ذلك النوع من الأشخاص. أو بالأحرى لماذا لم يُنظر إليّ على أنني من النوع الذي يمكن أن تثق النساء به بسهولة؟ أرى هذا بمثابة فشل شخصي.”
كانت كلمات أنتوني بوردين تشير إلى حركة (وأنا أيضاً) #MeToo (حركة اجتماعية ضد التحرش الجنسي وإساءة المعاملة الجنسية وثقافة الاغتصاب. ينشر من خلالها الناس تجاربهم في هذا الصدد) وعن النساء اللواتي مررن في حياته.
لماذا لم تشعر هؤلاء النسوة بأنهنّ قادرات على الثقة به والفضفضة له؟ كانت مآخذه متطرفة، فهو لم يوجه اللوم نحو النساء أو النظام.
بدلاً من ذلك، اعتبر أن قرارهنّ بالتزام الصمت كان مرتبطاً بشخصيته. أو بشكل أكثر تحديداً كان يشير إلى أنّ الطريقة التي يتصرف بها توحي للنساء بأنه ليس شخصاً يوحي بالأمان أو الثقة.
كان أنتوني بوردين طاهياً مشهوراً وكاتباً أميركياً، كما أنه كان صانع أفلام وثائقية وشخصية تلفزيونية؛ قدم برامجاً يروي قصصاً تركز على استكشاف ثقافات ومطابخ العالم ومن خلال ذلك يعلق على الحالة الإنسانية. وتوفي منتحراً.
الأبعاد وراء حالة أنتوني بوردين
يقول تيموثي إل. ليغ (Timothy L. Legg)، دكتوراه في علم النفس، لقد فكرت بكلماته جيداً بعد أن قالها وبعد وفاته. وقد جعلتني أتأمل أكثر كيف أنّ الكلمات هي مرايا تعكس قيم المتحدث ونوعية الأشخاص الذين يمكن أن يحصلوا على الثقة.
في الحقيقة، الكثيرون ممن عرفتهم لمدة تتجاوز العشر سنوات لا يمكن أن يدخلوا ضمن قائمة الأشخاص الذين يمكن لي أن أثق بهم.
كلمات بوردين كانت: “ما الذي فعلته؟ كيف جعلت نفسي أبدو بشكل لا يجعل الآخرين يثقون بي؟ ولماذا لم أكن من الأشخاص الذين يراهم الآخرون كحلفاء؟ ولذلك بدأت في التفكير بالأمر.”
عندما تصبح الأمور سوداء وكئيبة، لن أتذكر كم أضحكني الأشخاص حولي، سأتذكر فقط أصداء الكلمات التي عبرت عن آرائهم في الانتحار. كلمات مثل “هذا تفكير أناني للغاية” أو “إذا وصل بك الغباء لأخذ أدوية تلك الشركة سوف أتوقف عن كوني صديقك.” وتتكرر تلك الذكرى في كل مرة يتفقدون حالي بعبارة “ما الأخبار؟ كيف حالك؟”
في بعض الأحيان أكذب، وفي أخرى أخبرهم نصف الحقيقة فقط دون أن أكشف كل شيء. ولكنني في معظم الأحيان لا أرد عليهم وأكتفي بالصمت حتى تتلاشى لعنة الاكتئاب.
تتجاوز معاني الكلمات تعاريف القواميس، فهي تنطوي على تاريخ. ومع تكرار هذه الكلمات يوماً تلو الآخر في حياتنا تصبح عقوداً اجتماعية تعكس قيمنا والقواعد التي يُتوقع منا أن نعيش وقفاً لها.
لا يختلف الأمر كثيراً عن قاعدة النادل “the waiter rule” والتي تنص على أنّ شخصية المرء الحقيقية تنكشف من خلال الطريقة التي يُعامل بها موظفي الخدمات مثل النادل في المطعم. وهذه القاعدة لا تختلف كثيراً عند الحديث عن الانتحار أو الكآبة؛ أي كيف تتعامل وتتكلم مع شخص مكتئب يفكر بالانتحار.
لا يمكن التراجع عن كل الكلمات أثناء الحديث عن الانتحار بسهولة أو نسيانها مع الوقت
تتجذر بعض الكلمات عميقاً في الوسوم السلبية إلى درجة أن الطريقة الوحيدة لتجنب التعاطي مع المعنى السلبي لها هو التوقف عن استخدامها.
إحدى أفضل الأمور التي يمكن القيام بها في هذه الحالة هو التوقف عن النعت والوصف، فلا يوجد سبب يدفعك لإبداء رأيك في انتحار شخص ما غير مشاطرته مأساته. ولا يوجد ما يدفعك للحديث عن الأمر أو وصفه أو إخبار الآخرين عنه.
وكما كتب صموئيل والاس (Samuel Wallace) المتخصص في شؤون الانتحار: ” كافة حالات الانتحار ليست بغيضة ولا غير بغيضة. ليست مجنونة ولا بعقلانية، لا تعد أنانية ولا إيثارية، وهي ليست مبررة ولا دون مبرر”.
ينبع ذلك من الحجة العلمية القائلة بأن الانتحار نتيجة وليس اختياراً. وهكذا، فإن معظم علماء النفس المتخصصين بالانتحار يتفقون على أن الانتحار ليس قراراً أو فعلاً من إرادة الشخص الحرة.
عند الحديث عن الانتحار لا تصف محاولة الانتحار أبداً على أنها: أنانية، غباء، جبن أو ضعف، خيار أو خطيئة (أو أن الشخص ذاهب إلى الجحيم).
هل يسلب المرض النفسي الإرادة الحرة؟
في النسخة الرابعة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، يحتوي المرض النفسي على عنصر “فقدان الحرية”. وفي النسخة الخامسة، تم تغيير “فقدان الحرية” إلى “إعاقة أو ضعف في واحد أو أكثر من مجالات الأداء المهمة”. ويقال بأن هذا التعبير يشمل معايير “خسارة واحدة أو أكثر من أوجه الحرية”.
يجادل جيربن مينين (Gerben Meynen) في مقالته “الإرادة الحرة والاضطراب النفسي” بالقول: “أحد مكونات الإصابة باضطراب نفسي هو أن قدرة الشخص على اختيار البدائل قد سُلبت منه.”
كتبت بريدجيت فيتاسي (Bridget Phetasy) في مقال بالغ الأهمية لصحيفة نيويورك بوست عن نشأتها في بيئة كان الحديث فيها عن الانتحار أمراً عادياً. إذ قالت: ” العيش مع شخص قد هدد بالانتحار يجعل الأمر يبدو بالفعل أكثر من مجرد خيار.”
بالنسبة لأولئك الذين لديهم عقلية انتحارية، يجب أن نفهم أن الانتحار يأتي كخيار أخير ووحيد. في الحقيقة إنها كذبة واضحة، ولكن عندما تعاني من ذلك القدر من الألم العاطفي والجسدي وعندما يتكرر الأمر وتشعر بأن كل مرة أسوأ من السابقة، يبدو الانتحار طريقة للهرب.
كتبت: “كم انتظرت أن أكون حرة، من جسدي وألمي وكربتي، فقد كان ذلك المفهوم الثقافي الغبي يهمس بكل ما هو سيء. لذلك الجزء من عقلي الذي كان يخبرني بأن حل كل مشاكلي هو الموت وأنه ليس فقط الحل الوحيد بل الأفضل. لقد كانت كذبة لكنني صدقتها في ذلك الوقت.”
لا يمكنك أن تعد أحداً بأن الحال سيتحسن في سياق الحديث عن الانتحار
لا يميز الانتحار بين امرء وآخر. كما أن الاكتئاب ليس حالة عابرة لمرة واحدة تزول عندما تتغير الظروف أو البيئات. والإغراء الذي يحمله الهروب من مشاكل الحياة عن طريق الموت لا يختفي لمجرد أن شخصاً ما قد أصبح ثرياً أو حقق أهدافاً في الحياة.
إذا كنت تريد إخبار شخص ما بأن الأمور تتحسن، ففكر فيما إذا كنت تقدم وعداً لا يمكنك الوفاء به. هل تعيش في ذهنه لتعرف مدى الألم الذي يعاني منه؟ هل يمكنك معرفة مستقبله وتساعده في التخلص من آلامه قبل أن تأتي؟
لا يمكن التنبؤ بالألم الذي سيأتي في المستقبل، ولا حتى بالمكان الذي سوف يكون فيه بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو حتى عدة سنوات. إخبار شخص ما بأن الأمر يتحسن قد يجعله يقارن مرحلة أو مشكلة في حياته بأخرى قادمة. وعندما لا يتحسن أي شيء مع مرور الوقت، فقد تتولد لديه أفكار مثل “لن تتحسن الأمور على الإطلاق.”
لكن، وعلى الرغم من أن البعض قد يؤمن بأن الموت بحد ذاته ليس أفضل من الحياة. إلا أنّ الرسائل التي يشاركونها، وخاصة فيما يخص المشاهير، تقول خلاف ذلك.
ذكرت فيتاسي أنّ أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة وبعد وفاة الممثل روبن ويليامز نشرت العبارة التي يقولها علاء الدين لصديقه الجني في نهاية الفيلم “أنت حر أيها الجني”. وهذه العبارة ترسل العديد من الرسائل والمعاني المختلطة.
الموت كـ “حرية” يمكن أن ينطوي على التمييز ضد ذوي الاحتياجات الخاصة
بناءً على السياق والمرجعية، يمكن النظر إلى “الحرية” على أنها ضد ذوي الاحتياجات الخاصة أو حافز لأولئك الذين يعيشون مع إعاقة ما.
في حالة الفيزيائي الشهير ستيفين هوكينغ، غرد الكثيرون أنّه أصبح الآن حراً من جسده المادي. وهذا يشجع فكرة أنّ ذوي الإعاقة “محبوسون” في أجسادهم.
أما في سياق الانتحار، فإنه يعزز رسالة مفادها أنه لا مفر من المشاكل سوى الموت، فإذا استخدمت هذا النمط من التفكير أو التعبير اللغوي، فإنه يديم حلقة أن الموت هو الحل الأفضل.
حتى إذا كنت لا تفهم كل الفروق الدقيقة بين كلمات وتعابير اللغة، فهناك بعض الأسئلة يمكنك طرحها كي تتمكن من ضبط ما تقوله.
بدلاً من تكرار بعض الكلمات التي سمعتها من شخص ما، اسأل نفسك أولاً:
- ما هي فكرة “الشخص الطبيعي” التي أعزّزها؟
- هل سيؤثر إذا ما كان أصدقائي يأتون إلي لطلب المساعدة أم لا؟
- كيف سأشعر إذا لم يثقوا بي في مساعدتهم؟
دع الرغبة في أن تكون ملاذاً آمناً لأحبائك توجه كلماتك في الحديث عن الانتحار
يعد الانتحار السبب الرئيسي الثاني للوفاة لدى الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و34 عاماً، وقد تفاقمت بنسبة تزيد عن 30 في المائة منذ عام 1999، ويواجه الأطفال بشكل متزايد مشكلات تتعلق بالصحة النفسية.
وفقاً للإحصائيات الصحية النفسية:
- يعاني 17.1 مليون طفل دون سن الـ 18 من اضطراب نفسي قابل للتشخيص.
- يعاني 60 في المائة من الشباب من الاكتئاب.
- يُقدر مقدار النقص في أخصائيي علم النفس المدرسي بـ 9000 .
سيستمر هذا العدد في النمو أضعافاً مضاعفة لأنه لا يوجد وعد بتحسين الواقع. أيضاً، لا شيء يخبرنا إلى أين تتجه الرعاية الصحية، إذ من الصعب الوصول للعلاج النفسي ولا يمكن تحمل تكاليفه، قد يستمر الأمر كذلك إذا أبقينا الحوار بهذا الموضوع ثابتاً.
ما يمكننا فعله هو تخفيف العبء عمن نحبهم عندما نستطيع، إذ بإمكاننا تغيير الطريقة التي نتحدث بها عن الصحة النفسية والمتأثرين بها، حتى إن لم نكن نعرف شخصاً متأثراً بفكرة الانتحار، فيمكننا مراعاة الكلمات التي نستخدمها وانتقاؤها بحذر.
لا يتعين أن تتعايش مع الاكتئاب حتى تُظهر اللطف والمودة، وليس ضرورياً أن تجرب الخسارة والفقدان بشكل شخصي، وقد لا تضطر حتى إلى قول أي شيء على الإطلاق، فالرغبة في الاستماع إلى قصص ومشاكل بعضنا البعض أمر أساسي للتواصل البشري.
تقول الكاتبة والممثلة هانا غادسبي (Hannah Gadsby) في برنامجها ‘Nanette’: “الضحك ليس دواءنا، القصص هي الشفاء، الضحك هو مجرد عسل يُحلي الدواء المر “.
التعاطف الذي نحمله تجاه الأشخاص الذين بالكاد نعرفهم سيرسل رسالة أكبر إلى الأشخاص الذين تحبهم، والشخص الذي قد لا تعرف أنه يعاني.
تذكير، المرض النفسي ليس قوة خارقة
أن تكون قادراً على الاستيقاظ كل يوم بينما ينهار العالم داخل رأسك لا يجعلك دائماً تشعر بالقوة، إنه صراع يزداد صعوبة مع مرور الوقت والتقدم في السن وبينما تصبح سيطرتنا أقل على صحتنا.
في الكثير من الأحيان، نتعب كثيراً ويصعب علينا حمل أنفسنا، ونحتاج إلى معرفة أن كل شيء على ما يرام. لا يتعين علينا أن نكون بكامل نشاطنا في كل الوقت.
ولكن عندما يموت أحد المشاهير أو أي شخص له مكانته منتحراً، قد يكون من الصعب على شخص يعاني من الاكتئاب أن يتذكر تلك الفكرة، فقد لا يكون لديه القدرة على محاربة الشكوك والوساوس الداخلية.
لا يجب أن يخوض من نحبهم هذا الصراع لوحدهم، فالعمل على معرفة ما إذا كانوا بحاجة شديدة للمساعدة ليس بأي حال من الأحوال مبالغة في الرعاية.
كما وضحت الممثلة هانا غادسبي ببلاغة في برنامجها الأخير “Nanette”: “هل تعرف لماذا لدينا لوحات ‘دوار الشمس’؟”. ليس السبب أن فينسنت فان جوخ قد عانى من مرض نفسي، بل لأن كان له أخ يحبه. من خلال كل الألم، كان لديه حبل يصله بالعالم.”
كن الشيء الذي يصل الآخر بالعالم، ففي يوم ما قد لا يرد هذا الآخر على رسائلك النصية ولا بأس إن قمت بالاطمئنان عليه، وإلا فإننا سنخسر المزيد بصمت تام.
اقرأ أيضاً: الأفكار الانتحارية عند المراهقين، ما أسبابها؟ وكيف يمكن التخلص منها؟
اقـرأ أيضاً: الأفكار الانتحارية لدى الأطفال، الأسباب وعوامل الخطر المحتملة
اقرأ أيضاً: كيف تساعد صديقاً يشعر برغبة في الانتحار؟
المصدر: How to Talk About Suicide with the People You Love
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم