يحبّذ معظمنا الاعتقاد أن لديه ذاكرة جيدة إلى حد معقول. بالتأكيد كلنا يمكن أن ينسى أين ترك مفاتيح سيارته بين حين وآخر، وبالطبع، نسينا جميعاً اسم شخص ما أو رقم هاتف مهم أو ربما حتى تاريخ ذكرى زواجنا. ولكن عندما يتعلق الأمر بتذكر الأشياء الهامة، مثل حدث في طفولتنا العزيزة، فإن ذكرياتنا دقيقة وجديرة بالتذكّر، أليس كذلك؟ فما هي الذكريات الزائفة إذاً؟
نظرة عامة
في حين أننا قد نشبّه ذكرياتنا بالكاميرا ونحتفظ بكل لحظة بكامل تفاصيلها كما حدثت تماماً. إلا أن الحقيقة المحزنة هي أن ذكرياتنا هي أشبه بالملصقات التي جُمعت أحياناً بسرعة مع تزيين عَرَضي أو حتى تزييف صارخ.
ساعدت الأبحاث الحديثة في إظهار مدى هشاشة الذاكرة البشرية. فنحن عرضة بشكل مخيف للأخطاء، والإيحاءات البسيطة يمكن أن تحفز ذكريات كاذبة.
من المدهش أن الأشخاص الذين لديهم ذكريات استثنائية لا يزالون عرضة لاختلاق الأمور دون أن يدركوا ذلك.
الأبحاث التي تناولت الذكريات الزائفة
في إحدى التجارب الشهيرة التي أجريت عام 1995، تمكنت خبيرة الذاكرة إليزابيث لوفتوس من حمل 25% من المشاركين على تصديق ذكرى زائفة بأنهم فُقدوا مرة واحدة في مركز تسوّق عندما كانوا أطفالا.
كشفت دراسة أخرى أجريت عام 2002 أن نصف المشاركين يمكن أن ينقادوا إلى الاعتقاد الخاطئ بأنهم ركبوا مرة المنطاد عندما كانوا أطفالاً ببساطة عن طريق عرض صور متلاعب بها كـ (أدلة).
في معظم الأحيان، تتركز هذه الذكريات الكاذبة على الأشياء الدنيوية غير الهامة إلى حد ما. أي أحداث يومية بسيطة لها عواقب حقيقية قليلة.
لكن في بعض الأحيان يمكن أن يكون لهذه الذكريات الزائفة عواقب خطيرة أو حتى مدمّرة. وقد تؤدي الذاكرة الزائفة التي تُنقل أثناء الإدلاء بشهادة جنائية إلى إدانة شخص بريء بارتكاب جريمة. من الواضح أن الذاكرة الزائفة تستطيع أن تكون مشكلة خطيرة، ولكن لماذا تتشكل هذه الذكريات الزائفة بالضبط؟
الإدراك غير الدقيق
الإدراك البشري ليس مثالياً؛ ففي بعض الأحيان نرى أشياء غير موجودة وتفوتنا أشياء واضحة أمامنا مباشرة. في كثير من الحالات، تتشكل الذكريات الزائفة لأن المعلومات لا يتم ترميزها أو تشفيرها بشكل صحيح في المقام الأول. على سبيل المثال، قد يشهد الشخص حادثاً ولكن ليس لديه رؤية واضحة لتفاصيل ما حدث.
إن سرد الأحداث التي وقعت قد يكون صعباً أو حتى مستحيلاً لأن الشخص لم يشهد في الواقع كل التفاصيل. قد يملأ عقل الشخص “الثغرات” من خلال تشكيل الذكريات التي لم تحدث في الواقع.
تداخل الذكريات
في حالات أخرى، تتنافس الذكريات والتجارب القديمة مع المعلومات الأحدث. في بعض الأحيان فإن الذكريات القديمة هي التي تتداخل أو تغيّر ذكرياتنا الجديدة.
وفي أحيان أخرى، يمكن أن تجعل المعلومات الجديدة من الصعب تذكر المعلومات المخزنة مسبقاً. وعندما نجمع المعلومات القديمة مرة أخرى توجد ثغرات أو فجوات في ذاكرتنا.
تحاول عقولنا ملء المساحات الفارغة، وغالباً ما تستخدم المعرفة الحالية وكذلك المعتقدات أو التوقعات في ذلك.
على سبيل المثال، ربما يمكنك أن تتذكر بوضوح أين كنت خلال هجمات 11 من أيلول الإرهابية وماذا كنت تفعل. في حين أنك ربما تشعر بأن ذكرياتك عن الحدث دقيقة جداً، إلا أن هناك احتمال قوي بأن تتأثر ذكرياتك بالتغطية الإخبارية اللاحقة والقصص عن هذه الهجمات.
قد تتنافس هذه المعلومات الأحدث مع ذكرياتك الحالية للحدث أو تملأ أجزاء مفقودة من المعلومات.
العواطف
إذا سبق لك أن حاولت تذكر تفاصيل حدث مشحون بالعواطف (على سبيل المثال جدال أو حادث أو حالة طوارئ طبية)، ربما أدركت أن العواطف يمكن أن تعيث فساداً في الذاكرة الخاصة بك.
في بعض الأحيان يمكن أن تجعل المشاعر القوية التجربة قابلةً للتذكر أكثر ولكنها يمكن أن تؤدي أحيانا إلى ذكريات خاطئة أو غير موثوقة.
وجد الباحثون أن الناس يميلون إلى أن يكونوا أكثر عرضة لتذكر الأحداث المرتبطة بالمشاعر القوية، ولكن غالباً ما تكون تفاصيل مثل هذه الذكريات مشبوهة (مشكوكاً بصحتها). إعادة سرد الأحداث المهمة يمكن أن يؤدي أيضاً إلى اعتقاد خاطئ في دقة الذاكرة.
وجدت إحدى الدراسات عام 2008 أن العواطف السلبية، على وجه الخصوص، كانت مرجحة أكثر للتسبب في تشكيل ذكريات كاذبة.
فيما بيّنت دراسات أخرى أن تأثير الذاكرة المزيفة كان أقل ارتباطاً مع العواطف السلبية وأكثر ارتباطاً مع العواطف المتأججة (الإثارة).
وجدت دراسة عام 2007 أن الذكريات الكاذبة كانت أكثر تكراراً خلال فترات الإثارة العالية مما كانت عليه خلال فترات الإثارة المنخفضة، بغض النظر عما إذا كان المزاج إيجابياً أو سلبياً أو معتدلا.
التضليل (المعلومات الخاطئة)
في بعض الأحيان يتم خلط المعلومات الدقيقة بمعلومات غير صحيحة، ما يشوه ذكرياتنا عن الأحداث. درست لوفتوس الذكريات الكاذبة منذ سبعينيات القرن الماضي، وكشف عملها عن العواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب عن المعلومات المضللة على الذاكرة. في دراستها، عرضت على المشاركين صوراً لحادث مروري.
وعند سؤالهم عن الحدث بعد مشاهدة الصور، ضمّن المحاورون أسئلة رئيسية توحي بالإجابة أو معلومات مضللة. وعندما تم اختبار المشاركين فيما بعد في ذاكرتهم عن الحادث، كان أولئك الذين تم تقديم معلومات مضللة لهم أكثر عرضة لذكرياتٍ كاذبة عن الحدث.
يمكن بسهولة رؤية التأثير الخطير المحتمل لهذا الأثر المضلل في مجال العدالة الجنائية، حيث يمكن أن تعني الأخطاء حرفياً الخط الفاصل بين الحياة والموت. يشير برينيرد ورينا (2005) إلى أن الذكريات الكاذبة أثناء عملية الاستجواب هي السبب الرئيسي للإدانات الزائفة.
الإسناد الخاطئ
هل خلطت تفاصيل قصة مع تفاصيل قصة أخرى؟ على سبيل المثال، أثناء إخبار صديق عن عطلتك الأخيرة، قد تروي، عن طريق الخطأ، حادثاً وقع في إجازة قضيتها قبل عدة سنوات.
هذا مثال على طريقة تكوين الإسناد الخاطئ لذكرياتٍ زائفة. قد ينطوي ذلك على الجمع بين عناصر الأحداث المختلفة في قصة واحدة مترابطة، سوء تذكر من أين حصلت على معلومة معينة، أو حتى استرجاع أحداث متخيَّلة من طفولتك والاعتقاد بأنها حقيقية.
الأثر الضبابي
عند تكوين ذكرى، نحن لا نركز دائماً على التفاصيل الدقيقة، وبدلاً من ذلك نتذكر انطباعاً عاماً عما حدث. تقترح نظرية الأثر الضبابي أننا في بعض الأحيان نصنع آثاراً حرفية للأحداث وفي أحيان أخرى نعطي الخلاصة والجوهر فقط.
وتستند الآثار الحرفية إلى الأحداث الحقيقية كما حدثت بالفعل، في حين ترتكز الخلاصة على تفسيراتنا للأحداث.
كيف يفسر هذا الذكريات الخاطئة ؟ في بعض الأحيان لا تعكس طريقة تفسيرنا للمعلومات ما حدث حقاً بدقة. ويمكن أن تؤدي هذه التفسيرات المتحيزة للأحداث إلى ذكريات خاطئة عن الأحداث الأصلية.
كلمة أخيرة
في حين أن الباحثين لا يزالون يتعلمون المزيد عن الآليات الكامنة وراء كيفية تشكل الذكريات الكاذبة أو الزائفة، إلا أنه من الواضح أن هذه الذكريات هي أمر يمكن أن يحدث لأي شخص تقريباً و قد تتراوح من البسيطة إلى المُغيّرة للحياة، ومن غير المهمة إلى التي من المحتمل أن تكون قاتلة.
كتب كل من لوفتوس وبيكريل في مقال عام 1952: ” ما يقارب من عقدين من البحث عن تشويه الذاكرة لا يترك مجالاً للشك في أن الذاكرة يمكن تغييرها عن طريق التلميح”.
“يمكن أن ينقاد الناس إلى تذكّر ماضيهم بطرق مختلفة، وحتى يمكن أن ينساقوا إلى تذكر أحداث بأكملها لم تحدث لهم في الواقع.
عندما تحدث هذه الأنواع من التشوهات، يكون الناس واثقين في بعض الأحيان من ذكرياتهم المشوهة أو الزائفة. وغالباً ما يستمرون في وصفها بتفصيل كبير.
تلقي هذه النتائج الضوء على الحالات التي يتم فيها الاحتفاظ بذكريات زائفة بحماس. كما هو الحال عندما يتذكر الناس أشياء مستحيلة بيولوجياً أو جغرافياً.”
المصدر: False Memories and How They Form
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر محلم