يسعى معظمنا إلى البحث عن الحقيقة ومن الناحية المثالية، نهدف أيضاً إلى قول الحقيقة. ومع ذلك فإن معظم الناس يتصنعون ويزيفون ما هم عليه ويولون الكثير من الاهتمام لآراء الآخرين عنهم، بل ويكذبون باستمرار مثل البالغين، أحياناً تكون تلك الكذبات بإرادتهم وبكامل وعيهم وأحياناً أخرى تحدث بشكل لا واعي. في المقابل إذا نظرنا إلى طفل صغير جداً أو إلى شخص لم ينكسر خلال حياته ولم يتعرض لأي صدمة نفسية، ستلاحظ أنه صادق للغاية.
في الوقت نفسه، فإن الرضع والأطفال الصغار هم كائنات صادقة بشكل استثنائي لأن ردود أفعالهم العاطفية وأفكارهم طبيعية وصادقة. إذا كانوا سعداء، فإنهم يبتسمون ويضحكون ويصرخون بفرح خالص ويشعرون بالحماس والتحفيز والفضول والإبداع. أما إذا كانوا يشعرون بالحزن فإنهم يبكون وينسحبون بعيداً ويغضبون ويطلبون المساعدة والحماية، ويشعرون بالخيانة والحزن والخوف والوحدة والعجز. أي بكلتا الحالتين لا يختبئون خلف أي قناع.
وللأسف يرى البالغون في كثير من الأحيان هذه الظاهرة الطبيعية على أنها مصدر إزعاج أو سخافة أو حتى مشكلة. علاوة على ذلك بغرض التكيف والبقاء في بيئات معينة، يعتبرون الكـذب ببساطة هو أفضل استراتيجية ثم يكبر هؤلاء الأطفال_ بمن فيهم نحن_ضمن مجتمع يسوده الكذب والتضليل والخداع والزيف ويتم التعامل مع جميع تلك الأمور على أنها طبيعية.
هناك عدة أسباب تدفع الطفل للكذب وإخفاء أفكاره ومشاعره الحقيقية، ليكبر متأثراً بها ويصبح بالغ مزيف وغير صادق أهمها التالي.
من أسباب الكذب عند الأطفال أنهم يُعاقبون لقول الحقيقة
نعاقب بشكل روتيني بصفتنا أطفال بسبب قول الحقيقة. على سبيل المثال إذا رأى الطفل شيئاً قد يُشعر البالغين بعدم الراحة، عندها يحثونه على إخفاء الحقيقة. وفي بعض الأحيان قد يصل الأمر لمعاقبته أو نبذه أو تجاهله في حال قوله الحقيقة.
يضحي العديد من مقدمي الرعاية بصدق الأطفال مقابل راحة البالغين.
معايير متناقضة
لا يقتصر الأمر على رفض قول الحقيقة وبالتالي الكذب وحسب، بل أحياناً يتم إخضاع الطفل لمعايير متناقضة، يتوقع منهم دائماً في بعض المواقف قول الحقيقة. وفي مواقف أخرى يتم ردعهم بشدة عن القيام بذلك.
على سبيل المثال، يُتوقع من الطفل قول الحقيقة حول وجهته وماذا يفعل والأشياء الشخصية المماثلة، هنا الحقيقة والصدق جيدان. في المقابل لدى العديد من العائلات، إذا رأى الطفل والده يشرب الكحول مجدداً وأمه تبكي بشكل هستيري أو رأى والداه يتشاجران، يتوقع منه ألا يتحدث بتاتاً عن ذلك.
وبذلك يتشوش مفهوم الطفل حول قيمة الصدق وفي كثير من الأحيان حول الواقع نفسه. ويتعلم الطفل أنه من المفيد تجاهل الواقع في بعض الأحيان أو يشكل فكرة أنه من غير الآمن مشاركة ملاحظاتك وآرائك مع الآخرين.
لا أحد يصدق ما يقوله أو لا يؤخذ على محمل الجد
في الكثير من الأحيان لا يأخذ البالغون الأطفال على محمل الجد وكمثال شائع ومؤلم على ذلك، هو عند تعرض الطفل للإساءة ويحاول إخبار البالغين في حياته بذلك، لا يصدقون ما يقول ولا يأخذونه على محمل الجد. وهذا يلحق الضرر بالطفل بشكل كبير فهو لم يتعرض للإيذاء فحسب بل لم يتلق أي دعم أو تأكيد أو عزاء. وهذا يجعل شفائه من سوء المعاملة صعباً للغاية، إن لم يكن مستحيلاً.
بالإضافة لما سبق ستتولد لديه حالة من عدم الثقة بمقدمي الرعاية وأن الآخرين لا يهتمون به. وأن عليه التعامل مع ألمه بمفرده وحتى قد يبدأ الطفل في الشك فيما حدث بالفعل. هذا ضار جداً بالنسبة لاحترامه لذاته.
من أسباب الكذب عند الأطفال أنهم يعاقبون عند شعورهم بمشاعر معينة
من الشائع جداً أن يمنع البالغون الطفل من الشعور بمشاعر معينة. على سبيل المثال، لا يسمح له بالشعور بالغضب من مقدمي الرعاية ويعاقب عليه أيضاً ولا الشعور بالإحباط نتيجةً للحزن.
عندما يسقط الطفل ويصاب بأذى، يتعرض للهجوم ويُلقى عليه اللوم أو حتى يصل الأمر للسخرية منه. ويصرخ الكبار في وجهه قائلين بغضب: كل هذا خطأك! أو كان يجب أن تكون أكثر حذراً!.
وبذلك يتعلم الطفل أنه من الممنوع التعبير عن مشاعره أو حتى شعوره بمشاعر معينة وهذا بالضبط ما يعلم الطفل أن يمحو ذاته.
القدوة السيئة
كما يقال الطفل مرآة لبيئته، أي أنه بالتأكيد سيتعلم الكذب والتزييف إن رأى من يقتدي به على تلك الحال في بيئته المحيطة وللأسف لا يرى الكبار أن الكذب على الأطفال مشكلة كبيرة. بل على العكس تماماً ينظرون إليه كنوع من التسلية والمتعة.
يخدع البالغون الأطفال أو يشوشوا تفكيرهم ويختلقون القصص والمبررات لأفعالهم أو يكذبون عليهم لمجرد الشعور بالراحة العاطفية والاجتماعية كونه من المؤلم التحدث عن أشياء معينة.
وفوق كل ذلك،أحياناً يرى الأطفال البالغين يكذبون على الآخرين للحصول على ما يريدون بذلك يتعلمون أن يفعلوا الشيء نفسه.
الخلاصة
جميع السلوكيات والممارسات السابقة مع الطفل تشعره بأنه من الخطر أن يكون على طبيعته. وأن عليه إخفاء ذاته الحقيقية إن أراد البقاء على قيد الحياة ولكي يتم تقبله ولو بشكل بسيط ممن حوله، وهذا يتضمن إخفاء أفكاره وملاحظاته ومشاعره وتفضيلاته أيضاً.
في أوقات أخرى، يلجأ الطفل للكذب لتلبية احتياجاته التي سيتم تجاهلها تماماً لو لم يكذب. على سبيل المثال، إذا كان مقدموا الرعاية لا يهتمون بالطفل فقد يكذب أو يتظاهر بأن شيئاً ما يحدث لنيل بعض الاهتمام.
وبالطبع، سيتعلم الاختباء والتظاهر إذا تعرض للهجوم أو الرفض بشكل روتيني لكونه صادقاً حتى يصل إلى الدرجة التي يفقد فيها تدريجياً الاتصال بذاته الصادقة. وتختفي أي فكرة لديه عن هويته الحقيقة وهذا أمر مأساوي للغاية.
لذا من المهم بصفتنا بالغين أن ندرك أن علينا التصالح مع فكرة الفقدان والهجر وأن لا نخاف منها. فحياتنا لا تتوقف على بقاء مقدمي الرعاية معنا. يمكننا أن نتحمل ونتعامل مع كل مشاعر الخيانة والأذى وعدم الثقة والإهانة والوحدة والغضب والكثير غيرها.
لأننا بالغين يمكننا حل كل هذه المشاكل بهدوء وإعادة اكتشاف من نحن حقاً بتروي. يمكننا أيضاً البدء في الثقة بالآخرين ممن يستحقون الثقة فعلاً؛ أي يمكننا أن نصبح حقيقيين وصادقين مرة أخرى.
اقرأ أيضاً: تأثير صدمة الطفولة على العلاقات في مرحلة البلوغ
اقرأ أيضاً: دليل موجز حول سلوك إيذاء النفس وصدمة الطفولة التي لم تُشفى بعد
اقرأ أيضاً: الكـذب عند الأطفال، أسبابه وكيفية التعامل معه
المصدر: Childhood Trauma: How We Learn to Lie, Hide, and Be Inauthentic
تدقيق: هبة محمد
تحرير: جعفر ملحم