نمط تفكير “الكل أو اللا شيء” يُعتبر أحد التشوهات المعرفية، وهي طرق تفكير غير عقلانية ومتطرفة حيال العالم وحيال نفسك والمواقف. يطور أصحاب تفكير الكل أو اللاشي نمط تفكير سلبي، وبناءً عليه يعتقدون أنه عندما يحدث شيء خاطئ ستسير كل الأمور على هذا النحو.
هناك العديد من المسميات المختلفة لهذا النمط من التفكير، وربما ترامى بعضها على مسامعك. تصف العبارات التالية هذا التشوه المعرفي الشائع:
- التفكير المطلق
- تفكير “الأبيض أو الأسود”
- المتطرفون
- تفكير “الكل شيء أو اللا شيء”
أمثلة عن نمط التفكير “الكل أو اللا شيء”
اعتادت شارون على إحضار زوجها لها القهوة قبل العمل كل صباح، إلا أنه تأخر اليوم عن العمل ولم يملك الوقت الكافي لإحضارها لها قبل أن يغادر.
لطالما شعرت شارون دائماً بحب زوجها لها ولكن بسبب عدم تمكنه من إحضار القهوة لها ليوم واحد. فسّرت ذلك بعدم اهتمامه أو عدم التفكير بها بالقدر الكافي. وعلى الفور وجدت نفسها عالقة في سيناريو سلبي وغير قادرة على إيجاد حل وسطي.
يحب جون الدراسة ويبلي حسناً في المدرسة بوجه عام. ومع ذلك في مشروعه الأخير، أساء تفسير ما كان من المفترض عليه فعله وبالتالي حصل على درجات أقل من المعتاد. و بدلاً من اعتبار ذلك على أنه خطأ، يرى جون ذلك فشلاً تاماً ويمقت هذا الصف الدّراسيّ.
أجرت شيري اختباراً في القيادة ونجحت للتو وعادة ما تكون سائقة حذرة وماهرة. ومع ذلك، نظراً لأنها كانت متوترة قبل الاختبار ارتكبت بعض الأخطاء، حصلت على رخصة قيادتها لكنها الآن تعتبر نفسها سائقة سيئة.
ما هو سبب هذا النمط من التفكير؟
الإجابة المختصرة على هذا السؤال: لا توجد أسباب مؤكدة.
كان آرون بيك يعمل مع أشخاص يعانون من الاكتئاب في ستينيات القرن العشرين. وقد لاحظ أن العديد منهم لم يعانوا فقط من مشاكل صحية نفسية مثل الاكتئاب و المستويات المنخفضة من احترام الذات فحسب. بل لديهم أيضاً نمط التفكير المذكور آنفاً ” كل شيء أو لاشيء”.
غالباً ما كانت اللحظات الإيجابية تُضخّم بشكل كبير ومبالغ فيه، في حين كانت اللحظات السلبية مدمرةً و زادت المرضى قلقاً.
صاغ بيك مصطلح “التشوهات المعرفية” وبدأ العمل نحو أساليب العلاج السلوكي لدراستها وعلاجها. وقد افتُرض أن الأشخاص الذين ينخرطون في نمط التفكير “كل شيء أو لا شيء” هم ضحايا لصدمة في الماضي لم يتمكنوا من التغلب عليها وينقصهم غالباً احترام الذات ويركزون على الجوانب السلبية من الحياة، ويعانون من الاكتئاب والقلق أحياناً.
أصبح هذا النمط من التفكير أكثر شيوعاً اليوم، ففي جميع أنحاء العالم يركز الناس في خلافاتهم على النقائض فقط. وبدلاً من إيجاد أرضية مشتركة، ينخرطون في نمط التفكير “كل شيء أو لا شيء” الذي يستقطبهم نحو جانب واحد من القضية.
ويرجع هذا جزئياً إلى اعتمادنا على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والكم الهائل من المعلومات التي تكون بمتناول أيدينا في جميع الأوقات.
إذ بوسعنا أن نتواصل مع أي شخص في أي وقت، وهذا ما قد يجعلنا من أهل النخبة الذين يقومون بطرح آرائهم وتوضيحها مختبئين خلف لوحات المفاتيح والشاشات. وكثيراً ما تكون تلك الآراء متطرفة، سوداء أو بيضاء دون منطقة وسطى.
التفكير المطلق
يميل أصحاب نمط “الكل أو اللا شيء” إلى التفكير المطلق، ما يعني اعتقادهم بأن كل شيء هو في أقصى الاتجاهين. ولا وجود لما يُسمى الاعتدال، وعادة ما يُظهرون سلوكاً متطرفاً أيضاً.
وفيما يلي بعض الأمثلة عما يبدو الأمر عليه عندما يقتصر تفكير الناس على نقيضين فقط.
لدى هنري مقابلة عمل قادمة وقيل له قبل المقابلة أنه يحتاج إلى إحضار رسالة مرجعية من ربّ عمل أو زبون سابق. لكن هنري لا يستطيع التواصل مع المدير الذي يريد الحصول على رسالة منه. لذلك قرر أنه لا جدوى حتى من الذهاب إلى مقابلة العمل، وإذا لم يستطع الحصول على مبتغاه، فهو غير مهتم بمواصلة السعي.
يقول هنري لنفسه: “ما الفائدة من حضور المقابلة؟ سيكون الأمر فظيعاً لأنني شخصٌ فاشلٌ تماماً.”
شعور هنري هذا مرتبطٌ بالنمط المذكور آنفاً: إما نجاحٌ تام أو فشلٌ مطلق، لا يمكن أن يكون “جيداً” في أي شيء. إن لم يستطع الحصول على تلك الرسالة من المدير المُراد، فقد انتهى من الأمر وفقد الآمال و استسلم.
تركيزه منصبّ على سيناريو مثاليّ، ولا يستطيع التماهي والاقتداء بالأشخاص الإيجابيين بل التأقلم مع الضربات أو التعايش مع الأخطاء.
مثال عن التفكير المطلق
ليلي هي التي تكسب الدخل الرئيسي في العائلة، وزوجها توماس يبقى في المنزل ويعتني بطفليهما الصغيرين.
تعود ليلي لعائلتها بعد العمل وتشعر بالاشمئزاز من زوجها توماس، إذ لاحظت أن أطباق الغداء الذي أعده لا تزال في المغسلة وهناك بضعة ألعاب على أرضية غرفة المعيشة. تصيحُ في وجه توماس :”ماذا فعلت طوال اليوم؟ هذا المنزل قذر!”.
في حين أن توماس يعلم أن الأطباق يجب أن تُغسل، لم يفهم لماذا ليلي لا يمكنها أن ترى الجهد الذي بذله في جوانب أخرى من اليوم. مثل إعداد الغداء، وإطعام ورعاية أطفاله، واللعب معهم.
سلبية ليلي و حقيقة أن كل ما تراه هو فشلٌ مُتصور تسبب بجرح مشاعره : “أليس لديك دافع للعيش في منزل نظيف؟ ألا تهتم بعائلتك بما يكفي لجعل الأطفال يلعبون في منزل جميل؟ كم أنت غبي؟! “
لن تحصل ليلي على زواج سعيد وناجح بهذه الطريقة، ومستقبل زواجها قاتم. وإذا لم تتمكن من التغلب على افتراضاتها السلبية التلقائية (زوجها يتراخى أثناء النهار) ومن تعلم رؤية الإيجابيات، فإن زواجها على الأرجح محتومٌ بالفشل.
لا تستطيع ليلي إلا أن تلاحظ الأشياء الخاطئة. وربما تعلم أن معاملتها لزوجها سيئة ولكن عندما تكون في ذهنية سلبية، لا تستطيع التحدث بلطف مع توماس.
اعتقادات ليلي ليست بأكثر من تفكير متطرف: “زوجي لا يحاول، إنه غبي، لا يلاحظ أن المنزل في حالة من الفوضى”.
لو علِمت ليلي أن توماس لا يشعر بالفخر حيال فوضى منزلهم، ومشاعره حساسة للغاية وأخبرته بلطف أن عليه أن يتخطى الأمر ويفعل ما هو جيد لعائلته بدلا من الكسل أو الأعمال الرديئة. فربما معاملتها لـ توماس كانت لتصبح أفضل. ما تعتقده ليلي ليس عقلانياً لكنها لا تستطيع تخطيه لوحدها.
بعض الاقتباسات التي تُظهر تفكير “كل شيء أو لا شيء”
“متعبٌ، متعبٌ من لا شيء، متعبٌ من كل شيء، متعبٌ من ثقل العالم الذي لم نختر تحمله”. من رواية سكوت فيتزجيرالد، الجميلة والملعون.
“مـن لحظة ولادتنا، نبدأ في الموت”. من رواية جين تايلور، لا شيء.
“ماذا أصبحت؟ يا أعزّ صديق، كل من أعرفه سيذهب في النهاية ويمكنك أن تحصل على كل ما أملك: امبراطوريتي من القذارة، سوف أخذلك، سأؤذيكَ”. من أغنية فرقة Nine Ench Nails
“إذا كانت الحقيقة هي ما تبحث عنه، فإن الحياة سوف تأخذك فقط في رحلة طويلة إلى حدود العزلة وتتركك على جانب الطريق مع حقيقتك ولا شيء آخر”. من كتاب توماس لي جوتي، المؤامرة ضد العرق البشري
“الأوج؟ هل سأحظى بواحد؟ أنا بالكاد كان لدي أي شيء يمكن أن تسميه حياة، بعض التموجات، نهوضٌ وتعثر لكن هذا فقط. لاشيء تقريباً، فلا شيء يولد من لا شيء؛ قد أحببت و قد كنت محبوباً لكن لم يكن لدي ما أقدمه لقد كان منظراً طبيعياً عادياً، بلا معالم. شعرت وكأنني في لعبة فيديو (باكمان آخراً)، يُسحق بشكل أعمى خلال متاهة من الخطوط المنقطة و موتي كان اليقين الوحيد”. من رواية هاروكي موراكامي، رقص، رقص رقص
العلاج السلوكي وعلم النفس اليوم
تبلورت بعض المفاهيم حول علم النفس على نطاق واسع منذ جلس آرون بيك لأول مرة مع مرضى الاكتئاب وحاول فهم: لماذا هم منخرطون في نمط التفكير ” كل شيء أو لاشيء” و ما العلاج؟
مثل هذه التشوهات أصبحت مقبولة على نطاق كبير في علم النفس اليوم. وقد ظهر العلاج السلوكي المعرفي للمساعدة في التعامل معها، وهذا العلاج موجود لتحديد السلوكيات التي تساهم في زيادة مستويات القلق ويساعد على معرفة وإدراك متى تتصرف وتفكر بطريقة غير عقلانية.
كيف تنجح في التغلب على نمط التفكير هذا؟
إذا أدركت عند قراءة هذه المقالة أنك تعاني من نمط التفكير هذا، أو إذا قرأت الأمثلة المزوَّدة و ظننت أن صديقاً لك أو شخصاً يعيش هذه الحياة يطابق الحالة، فكن مطمئنا، هناك أمل.
لا يجدر بك عيش حياة سلبية إلى أجل غير مسمى، ولا رؤية أخطائك وكأنها إخفاقات تلقائية، فارتكاب الأخطاء لا يجعلك شخصاً فظيعاً. واعلم أن العبارات السلبية قد تؤذي مشاعر الآخرين لذا ابدأ بالتطلع نحو جوانب الحياة الإيجابية وفرصك بأن تكون أفضل.
وقد تدفعك جلسة واحدة مع استشاري أو معالج إلى طلب المزيد من المساعدة للتغلب على قلقك الذي يغذي تفكير “كل شيء أو لا شيء”.
كن الشخص الذي تريد
إن كان بإمكانك تكريس نفسك لتخطي هذا التفكير، وكنت ترغب بأن تغدو قادراً على التفكير بشكل عقلانيّ، يمكنك ذلك، يمكنك أن تكون أي شخص تريد.
بعض اللحظات من اللاعقلانية أو الانخراط في أنماط التفكير المطلق لا يعني عدم وجود الأمل، ما زلت تستحق الحب والنجاح والاحترام.
قد يتطلب الأمر طلب المساعدة من أخصائي مرخص إذا ظننت أنك لن تتمكن من معالجة الأمر بنفسك، ويمكن لطبيب العائلة أن يوضح لك طرق التعامل مع تفكيرك اللاعقلاني، و بإمكانك الابتعاد عن أسلوب الحياة والتفكير المطلق. عائلتك وأصدقاؤك يحبونك و يدعمونك في رحلتك، وأنت ببساطة تحتاج إلى الإيمان بنفسك فقط.
اقرأ أيضاً: التفكير السحري، تعريفه وعلاقته بالخرافات
المصدر: what is all or nothing thinking
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم