يمكن تفسير الاضطرابات العاطفية عبر نماذج حيوية نفسية اجتماعية تكاملية كنموذج التأثّرية والضغط (Stress vulnerability model). بمعنى تأثر الفرد بالعوامل المحيطة والضغط الذي يمر به (كالمرض والرسوب أو موت أحد الأقرباء.). مما يؤدي لتطور أعراض نفسية، حيث سنفرد مقالاً خاصاً بهذا النموذج. في كل الأحوال؛ فإن النظرة العلمية الحالية حول الاكتئاب تُشيد بتعدد العوامل المسببة ومنها العوامل الوراثية والعصبية الحيوية والنفسية الاجتماعية. إن الأثر المسبب للاكتئاب هو حدث حياتي ما يتعلق بشكل رئيسي باستعداد أو تأهب الفرد ذاته. حيث يمكن أن يسبب حدث ما الاكتِئاب عند شخص ولا يسببه عند شخص آخر.

عوامل الاكتئاب الوراثية

أثبتت العديد من الدراسات على العائلات والتوائم والأطفال المُتَبَنيين وجود عامل وراثي واضح للاضطراب ثنائي القطب. حيث يرتفع خطر الاصابة في حال إصابة أحد اقارب الدرجة الاولى إلى عشر أضعاف مقارنة بخطر الاصابة العام للمجتمع.

كما تبلغ نسبة اصابة الولد 10% في حال إصابة أحد الوالدين بالاكتئاب أحادي القطب و20% في حال الاكتئاب ثنائي القطب. في حال اصابة توأم بالأمراض العاطفية، فإن نسبة إصابة التوأم الآخر 65% في حال التوأم متماثل الزَّيجوت (البيضة الواحدة) و20% في حال التوأم متغاير الزَّيجوت (البيضتين).

العوامل العصبية الحيوية (البيولوجية)

الارتباطات الحيوية الكيميائية العصبية

تم تفسير الاكتئاب سابقاً بنقص اثنين من النواقل العصبية وهما السيروتونين والأدرينالين (فرضية نقص الأمين – Amine deficiency hypothesis). هذه الفرضية مدعمة بالكثير من الدراسات و بفعالية مضادات الاكتِئاب التي تزيد من تركيز هذه النواقل في المشبك بين الخلايا العصبية. لكن التفسير العلمي الحالي هو اختلال التوازن بين النواقل العصبية المختلفة والتغيرات على مستوى المستقبلات العصبية وانتقال الاشارة والتعبير الجيني والمرونة العصبية.

الارتباطات الهرمونية

أثبتت العديد من الدراسات وجود اضطراب عصبي غدي على محور الوطاء-الغدة النخامية-الغدة الكظرية أو  محور الوطاء-الغدة النخامية-الغدة الدرقية. حيث يوجد لدى ما يقرب من 50% من مرضى الاكتئاب ارتفاع في مستوى كورتيزول الدم واضطراب في اختبار كبت الديكساميتازون.

يجري حالياً دراسة تأثير تغير تفاعلية مستقبلات الستيروئيدات القشرية والمعدنية في منطقة الحُصَين في الدماغ (hippocampus). من المثير للاهتمام أيضاً وجود علاقة بين زيادة انتشار الاكتِئاب عند الرجال الأكبر سناً كلما انخفض مستوى التستوستيرون لديهم.

التغيرات التشريحية المورفولوجية والبنيوية

أثبتت الدراسات التشريحية والشعاعية باستخدام المرنان المغناطيسي بعد الموت عند مرضى الاكتئاب وجود توسع في البطينات كذلك نقصان في المادة الرمادية في القشرة الدماغية الأمام جبهية (Prefrontal cortex) وفي منطقة الحُصَين. حيث يتناقص عدد وثخانة الخَلاَيا الدِبْقِيَّة. كما وجدت الكثير من الدراسات ضخامة في منطقة اللوزة الدماغية (Amygdala) وزيادة في شدة الإشارات الدماغية في المادة البيضاء عند مرضى اضطراب ثنائي القطب.

التغيرات الوظيفية

أثبتت وسائل التصوير الشعاعي الوظيفي (fMRT, PET, SPECT, MPI) وجود اضطراب توازن مع زيادة ونقص تفعيل عدد من مناطق الدماغ. كزيادة تفعيل اللوزة الدماغية في حال المؤثرات السلبية ورجوعها للحالة الطبيعية بعد المعالجة الناجحة للاكتئاب. كما تم توثيق وجود نقص في تدفق الدم في المنطقة أمام الجبهية مع وجود تغيرات في استقلاب الغلوكوز (السكر) والغلوتامات.

عوامل الاكتئاب النفسية

أحداث الحياة المهمة (Life events) وتفاعل الإجهاد (stress reaction)

غالباً ما تقع أحداث مهمة قبل ظهور أعراض الاكتئاب فيما يعرف بالمسببات النفسية التفاعلية كالمشاكل العائلية أو خسارة أحد المقربين، الطلاق، النِفَاس أو تغير طريقة الحياة المعتادة (تغير مكان السكن) أو خسارة مكان العمل.

تلعب الصدمات كالاعتداء الجنسي دوراً مهماً وتترافق بخطر عالي لتطور الاكتِئاب. كما يوجد لدى مرضى الاكتِئاب تجارب خسارة أشخاص أكثر بمرتين لثلاث مرات من غير المصابين. كذلك الأمر تكون معدلات الاكتئاب أكثر ارتفاعاً عند الأشخاص العاطلين عن العمل أو الذين يعانون من ضغوط شديدة في عملهم.

أثبتت الدراسات أن الضغوط طويلة الأمد تؤدي للاِنطِواء الاجتماعي والعجز المتعلم وإهمال الذات. من المثير للاهتمام أن الأزمات كالحروب لا تسبب بارتفاع شديد في حالات الاكتئاب. الأمر الذي يشدد على أهمية العوامل الاجتماعية والحيوية كذلك تطور استراتيجيات التأقلم. 

قد تكون المشاكل في العلاقات سبباً للاكتئاب، كما قد تكون نتيجة للاكتئاب. قد تتطور حلقات تفاعل سلبية بين الطرفين كسوء التفاهم والإحساس بالذنب والانزعاج المكبوت الذي قد يصل لدرجة التجاهل.

العجز المتعلم (Learned helplessness): قناعة تتطور بسبب التجارب السلبية بفقدان القدرة على تغير حياة الإنسان وكون الشخص ذاته مسؤولاً عن ذلك. حيث تتطور هذه الآلية عند مرضى الاكتئاب بشكل واضح، وقد تمت التجارب في هذه النظرية على الكلاب.

تأثيرات الاكتئاب النفسية العصبية

يلاحظ وجود ضعف في الوظائف التنفيذية (التخطيطظن حل المشاكلظن المرونة المعرفية) والذاكرة العملية (المؤقتة) وتطاول الوقت اللازم لرد الفعل.

العوامل المتعلقة بالشخصية

يوجد عدة فرضيات تناقش مميزات شخصية الفرد المؤهبة لتطور الاكتئاب ومنها الدقة والترتيب المُبَالَغ بهما والتزمت والجاهزية للتضحية. كذلك الشخصية المعتمدة أو الوَسْواسية.

المصدر: كتاب Duale Reihe Psychiatrie, Psychosomatik und Psychotherapie، لتحميل الكتاب انقر هنا.