الإشراط أو التكيف الفعال (Operant Conditioning)، والذي يُشَار إليه أحياناً باسم التكيُّف الإجرائي، هو طريقة تعلم تستخدم المكافآت والعقوبات على السلوك. و يرتبط السلوك من خلال التكيُّف الفعال بنتيجة هذا السلوك (سواء كانت سلبية أو إيجابية).
فعندما تضغط فئران التجارب على المقبض حين يضيء الضوء الأخضر على سبيل المثال، فإنها تتلقى دفعة من الطعام كمكافأة ، أما عندما يضغطون على المقبض عندما يومض الضوء الأحمر، فإنهم يتلقون صدمة كهربائية خفيفة. فيتعلمون نتيجة لذلك، الضغط على المقبض عند تشغيل الضوء الأخضر وتجنب الضوء الأحمر.
ولكن التكيف الفعال ليس مجرد شيء يحدث في البيئات التجريبية أثناء تدريب حيوانات المختبر فحسب، بل يلعب دوراً قوياً في التعلم اليومي. حيث يُستخدم التعزيز والعقاب في بيئات طبيعية طوال الوقت، وكذلك في أماكن أكثر تنظيماً مثل الفصول الدراسية أو جلسات العلاج.
تاريخ التكيف الفعال
قام عالم النفس السلوكي بي إف سكنر (B.F. Skinner) بوصف التكيف الفعال لأول مرة، ولهذا السبب قد تسمع أنه يشار إليه أحياناً باسم (التكيف السكنري).
حيث اعتقد سكينر، بصفته عالماً سلوكياً، أنه ليس من الضروري حقاً البحث في الأفكار والدوافع الداخلية من أجل شرح السلوك. وبدلاً من ذلك، اقترح أن ننتبه فقط إلى الأسباب الخارجية التي يمكن ملاحظتها للسلوك البشري.
أصبح المذهب السلوكي خلال الفترة الأولى من القرن العشرين قوة رئيسية في علم النفس. حيث هيمنت أفكار جون بي واتسون (John B. Watson) على هذه المدرسة الفكرية في وقت مبكر.
وركز واتسون على مبادئ التكيّف الكلاسيكي، واشتهر بطرحه ذات مرة أنه يمكنه أخذ أي شخص بغض النظر عن خلفيته وتدريبه ليكون أي شيء يختاره.
ركز علماء السلوك الأوائل اهتماماتهم على التعلم الترابطي، فكان سكينر أكثر اهتماماً بكيفية تأثير عواقب أفعال الناس على سلوكهم.
واستخدم سكينر مصطلح الفعّال (الإجرائي) للإشارة إلى أي “سلوك نشط قد يؤثر على البيئة لتوليد عواقب”. حيث أوضحت نظريته كيف نكتسب مجموعة السلوكيات التي تعلمناها والتي نُظهرها كل يوم.
تأثرت نظريته بشدة بعمل عالم النفس إدوارد ثورندايك (Edward Thorndike) ، الذي طرح ما أسماه قانون التأثير . وفقاً لهذا المبدأ، من المرجح أن تتكرر الأفعال التي تتبعها نتائج مرغوبة أكثر من تلك التي تليها نتائج غير مرغوب فيها .
و يعتمد التكيف الفعال على فرضية بسيطة إلى حد ما ألا وهي: تتقوّى الأفعال التي تُتبع بالتعزيز ويزيد احتمال حدوثها في المستقبل. فإذا رويت قصة مضحكة في الفصل وضحك الجميع، فمن المرجح أن تروي هذه القصة مرة أخرى في المستقبل.
وإذا رفعت يدك لطرح سؤال وامتدح معلمك سلوكك المهذب، فمن المرجح أن ترفع يدك في المرة القادمة التي لديك فيها سؤال أو تعليق. نظراً إلى أن السلوك أعقبه دعم، أو نتيجة مرغوبة، فيتعزّز الفعل السابق.
على العكس من ذلك، ستضعف الأفعال التي تؤدي إلى العقاب أو إلى عواقب غير مرغوب فيها ويقل احتمال حدوثها مرة أخرى في المستقبل.
فإذا رويت نفس القصة مرة أخرى في فصل دراسي آخر ولكن لم يضحك أحد هذه المرة ، فستقل احتمالية تكرارك القصة مرة أخرى في المستقبل.
وإذا هتفتَ بالإجابة في الفصل وقام معلمُك بتوبيخك، فقد يقل احتمال مشاركتك في الفصل مرة أخرى.
أنواع السلوكيات
ميّز سكينر بين نوعين مختلفين من السلوكيات:
- السلوكيات المستجيبة: و هي تلك التي تحدث تلقائياً وبشكل انعكاسي، مثل سحب يدك للخلف بعيداً عن موقد ساخن أو اهتزاز ساقك عندما ينقر الطبيب على ركبتك. فليس عليك تعلم هذه السلوكيات وإنما تحدث ببساطة بشكل تلقائي لا إرادي.
- السلوكيات الفعالة (الإجرائية) هي تلك التي تخضع لسيطرتنا الواعية من ناحية أخرى، فقد يحدث بعضها بشكل عفوي والبعض الآخر عن قصد، ولكن عواقب هذه الأفعال هي التي تؤثر على ما إذا كانت ستحدث مرة أخرى في المستقبل أم لا.
حيث تُشكل أفعالنا على البيئة ونتائج هذه الأفعال جزءاً مهماً من عملية التعلم.
في حين أن التكيُّف (الإشراط) الكلاسيكي يمكن أن يفسر السلوكيات المستجيبة ، أدرك سكينر أنه لا يمكن أن يفسر مقداراً كبيراً من التعلم. بدلاً من ذلك ، اقترح سكينر أن التكيُّف الفعال له أهمية أكبر بكثير.
حيث اخترع أجهزة مختلفة خلال فترة صباه وقام بتوظيف هذه المهارات في العمل أثناء دراسته للتكيُّف الفعال. فابتكر جهازاً يُعرف باسم حجرة التكيُّف الفعال، وغالباً ما يشار إليها اليوم باسم “صندوق سكينر”.
ويمكن أن تحتوي الحجرة على حيوان صغير، مثل الجرذ أو الحمام. ويحتوي الصندوق أيضاً على قضيب أو مفتاح يمكن للحيوان الضغط عليه للحصول على مكافأة.
وطوَّر أيضا جهازاً يعرف باسم المسجل التراكمي من أجل تتبع الاستجابات، إذ سجل الجهاز الاستجابات كخط ذي حركة تصاعدية بحيث يمكن قراءة معدلات الاستجابة من خلال النظر إلى منحنى هذا الخط.
التعزيز في التكيف الفعال
التعزيز هو أي حدث يقوي أو يزيد السلوك الذي يتبعه. ويوجد نوعان من المعززات، حيث يزداد السلوك في كلتا حالتي التعزيز تلك.
- المعززات الإيجابية:
وهي أحداث أو نتائج مواتية ومفضلة يتم تقديمها بعد السلوك. حيث يتم تقوية الاستجابة أو السلوك في حالات التعزيز الإيجابي من خلال تقديم الثناء أو المكافأة المباشرة.
فإذا قمت بعمل جيد في العمل ومنحك المدير مكافأة، فإن هذه المكافأة هي معزز إيجابي.
- المعززات السلبية:
وتشمل إزالة الأحداث أو النتائج غير المرغوبة بعد إظهار السلوك. وفي هذه الحالات، يتم تقوية الاستجابة بإزالة شيء يعتبر غير سار.
فعلى سبيل المثال ، إذا بدأ طفلك في الصراخ في وسط مطعم ، لكنه توقف بمجرد أن عالجت الموضوع، فإن تصرفاتك أدت إلى إزالة الحالة المزعجة ، مما يعزز سلوكك سلبياً (وليس سلوك طفلك).
العقاب في التكيف الفعال
وهو تقديم حدث أو نتيجة سلبية تؤدي إلى التقليل من السلوك الذي تتبعه هذه النتيجة.
يوجد نوعان من العقاب، وفي كلتا الحالتين ، يقل السلوك.
- العقاب الإيجابي
و الذي يشار إليه أحياناً بالعقاب من خلال التطبيق، حيث تقدم حدثاً أو نتيجة غير مواتية من أجل إضعاف الاستجابة التي تليها. يُعَد الضرب نتيجة لسوء السلوك هو مثال على العقوبة بالتطبيق.
- العقاب السلبي
والمعروف أيضاً باسم العقاب عن طريق الإزالة، حيث يحدث عند إزالة حدث أو نتيجة مواتية بعد حدوث السلوك. حرمان الطفل من لعبة فيديو بعد سلوكه السيء هو مثال على العقاب السلبي.
جداول التعزيز
ليس بالضرورة أن يكون التعزيز عملية مباشرة ، وتوجد عدة عوامل يمكن أن تؤثر على مدى سرعة وكيفية تعلّم الأشياء الجديدة بشكل جيد.
حيث وجد سكينر أن متى وكيف يتم تعزيز السلوكيات يلعبان دوراً في سرعة وقوة الاكتساب. أي بمعنى آخر، يؤثر التوقيت وتكرار التعزيز على كيفية تعلم السلوكيات الجديدة وكيفية تعديل السلوكيات القديمة.
وحدد (سكينر) عدة جداول مختلفة للتعزيز التي تؤثر على عملية التكيُّف الفعال:
- التعزيز المستمر:
يتضمن تقديم تعزيز في كل مرة تحدث فيها استجابة. يميل التعلم إلى أن يحدث بسرعة نسبياً. ومع ذلك، يكون معدل الاستجابة منخفضاً جداً، ويحدث الانخماد أيضاً بسرعة كبيرة بمجرد توقف التعزيز.
- جداول معدل التعزيز الثابت:
وهي نوع من التعزيز الجزئي. حيث يتم تعزيز الاستجابات فقط بعد حدوث عدد محدد من الردود. و هذا عادة ما يؤدي إلى معدل استجابة ثابت إلى حد ما.
- جداول فترة التعزيز الثابتة:
هي شكل آخر من أشكال التعزيز الجزئي. حيث يحدث التعزيز فقط بعد انقضاء فاصل زمني معين. و تظل معدلات الاستجابة ثابتة إلى حد ما وتبدأ في الزيادة مع اقتراب وقت التعزيز، ولكنها تتباطأ فور الحصول على التعزيز.
- جداول معدل التعزيز المتغير:
هي أيضاً نوع من التعزيز الجزئي الذي يتضمن تقوية السلوك بعد عدد متغيّر من الاستجابات، و يؤدي هذا إلى معدل استجابة مرتفع و معدلات انخماد بطيئة.
- جداول فترة التعزيز المتغيرة:
وصفها سكينر بأنها الشكل النهائي للتعزيز الجزئي. ويتضمن هذا الجدول الزمني تقديم التعزيز بعد انقضاء فترة زمنية متغيرة. بالتالي، يؤدي هذا أيضاً إلى معدل استجابة سريع و معدل انخماد بطيء.
أمثلة على التكيف التفاعلي
يمكننا أن نلاحظ أمثلة على التكيُّف الفعّال تعمل من حولنا. فلتأخذ في عين الاعتبار الأطفال الذين يُكملون واجباتهم المنزلية لكسب مكافأة من أحد الوالدين أو المعلم، أو الموظفين الذين يتمون المشاريع لتلقي المديح أو الترقيات.
فيما يلي المزيد من الأمثلة على التكيُّف الفعال في الواقع:
- عندما يصفق لك الجمهور بعد تأدية مسرحية في مسرح المجتمع، يُعد هذا بمثابة معزز إيجابي يلهمك لتجربة المزيد من أدوار الأداء.
- حين تقوم بتدريب كلبك على إحضار الهدف من خلال مدحه أو التربيت على رأسه كلما تصرّف بالشكل الصحيح، فهذا معزز إيجابي آخر.
- إذا أخبر الأستاذ الطلاب أنه إذا كان حضورهم تاماً طوال الفصل الدراسي ، فلن يتعين عليهم اجتياز الاختبار الشامل النهائي. فمن خلال إزالة الحافز غير المرغوب (الاختبار النهائي) ، يتم تعزيز الطلاب بشكل سلبي لحضور الفصل بانتظام.
- إذا فشلت في تسليم مشروع في الوقت المحدد ، سيصبح مديرك غاضباً و سيوبّخك أمام زملائك في العمل. فيُعَد هذا بمثابة عقاب إيجابي، مما يقلل من احتمالية التأخر في تسليم المشاريع في المستقبل.
- لم تُنظف إحدى المراهقات غرفتها كما طُلب منها، فقام والداها بأخذ هاتفها لبقية اليوم.
يعد هذا مثالاً على العقاب السلبي الذي يتم فيه إزالة الحافز الإيجابي.
تؤدي الوعود أو إمكانية المكافآت في بعض هذه الأمثلة، إلى زيادة السلوك.
يمكن أيضاً استخدام التكيُّف الفعال لتقليل السلوك عن طريق إزالة النتيجة المرغوبة أو تطبيق نتيجة سلبية. فقد يتم إخبار الطفل على سبيل المثال، بأنه سيخسر امتيازاته إذا تحدث خارج دوره في الفصل، إذ قد يؤدي احتمال العقاب هذا إلى انخفاض في السلوكيات التخريبية.
خلاصة
في حين أن المذهب السلوكي قد فقد الكثير من شعبيته خلال الفترة الأولى من القرن العشرين ، إلا أن التكيّف الفعال يظل أداة مهمة وغالباً ما تستخدم في عملية التعلم وتعديل السلوك.
قد تؤدي العواقب الطبيعية أحياناً إلى تغييرات في سلوكنا. وفي حالات أخرى ، قد يتم توزيع المكافآت والعقوبات بوعي في سبيل إحداث التغيير.
يمكنك التعرف على التكيُّف الفعال على الفور في حياتك الخاصة ، سواء كان ذلك في أسلوبك لتعليم أطفالك السلوك الجيد أو في تدريب كلب العائلة، وتذكّر أن أي نوع من التعلم يستغرق وقتاً.
ضع في اعتبارك نوع التعزيز أو العقوبة الأفضل التي تلائم موقفك الخاص وقيّم نوع جدول التعزيز الذي قد يؤدي إلى أفضل النتائج.
اقرأ أيضاً: علم النفس السلوكي، تاريخه، أنواعه، تأثيراته واستخداماته
المصدر: What Is Operant Conditioning and How Does It Work
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم