التنظيم المشترك (Co-Regulation) بجوهره عبارة عن عملية شخصية، يقوم فيه المشاركون بتعديل تفاعلاتهم ضمن نمط منسق وبشكل مستمر وذلك من أجل المشاركة في خلق حالة عاطفية إيجابية والحفاظ عليها. أثناء التنظيم المشترك العاطفي، يقوم المشاركون بتعديل أفعالهم لتتناسق مع بعضها بطريقة تعاونية، أي أنهم يقومون بما يسمى التنظيم المشترك. يتضمن هذا التنظيم المتبادل كلاً من عملية المطابقة وعدم التطابق، والانقطاع وأيضاً إصلاح الروابط. يتعلم الأطفال التنظيم الذاتي (Self-Regulation) من خلال أول تنظيم مشترك يمارسونه مع آبائهم.
أهمية التنظيم المشترك
يعتمد التطور الاجتماعي والعاطفي للطفل بشكل أساسي على قدرته على تنظيم عواطفه، لذا تعد قدرة الطفل على تنظيم عواطفه أمر ضروري لنموه الصحي وأيضاً لتحقيق نجاح في الأداء ضمن مجموعة واسعة من المجالات، ابتداءً من الصحة البدنية والعقلية وصولاً إلى الأداء الأكاديمي والنجاح الاجتماعي والاقتصادي.
يجدر التنويه إلى أن النتائج السلبية المختلفة ضمن مرحلة الطفولة والمراهقة والبلوغ ذات تأثير كبير على التنظيم الذاتي العاطفي، إذ أنها ستزيد من صعوبته.
في البداية تكون قدرة الأطفال على تنظيم أنفسهم محدودة. لذا عندما يشعرون بالانزعاج يعتمدون بدرجة كبيرة على مقدم الرعاية الأولي والأساسي لمساعدتهم على التأقلم واستعادة توازنهم العاطفي.
كما أن تعلم الأطفال كيفية التواصل وإدارة مشاعرهم يستند بدرجة كبيرة على استجابة مقدم الرعاية لتعبيراتهم عن المشاعر السلبية. وأهم ما في الأمر أن التنظيم العاطفي يبدأ بالتنظيم المشترك الذي يمنحه مقدم الرعاية الأولي. كما يمكن للوالدين الاستفادة من التنظيم المشترك في مساعدة الأطفال على تطوير التنظيم الذاتي.
وتجدر الإشارة إلى أن التنظيم المشترك لمقدم الرعاية يزود الآباء بالدعم الخارجي وهذا ما سيسهل عليهم موضوع التنظيم العاطفي لأطفالهم. إذ ستكون هذة الخبرة بمثابة دعامات للأطفال لتطوير قدرتهم على التعامل مع الاضطراب العاطفي.
أهمية التنظيم المشترك للآباء
بالنسبة للآباء، فإن التنظيم المشترك أشبه بتعليم أطفالهم كيفية ركوب الدراجة بدون عجلات تدريب. كل ما على الأطفال فعله في البداية هو الجلوس ببساطة والآباء سيتولون باقي العمل المتعلق بإمساك الدراجة ودفعها نحو الأمام.
لكن سرعان ما سيعتاد الطفل على التوازن بمفرده، إذ سيبدأ بتحريك الدواسات بنفسه كما أن سيحافظ على توازن الدراجة دون مساعدة. وفي مرحلة ما يمكن للأهل ترك الدراجة.
ولهذا السبب يعد التنظيم المشترك أمراً حاسماً عندما يتعلق الأمر بتحسين تنظيم المشاعر في مرحلة الطفولة.
في حال غياب الوالدين أو عجلات التدريب، من المحتمل أن يسقط الطفل الذي يتعلم ركوب الدراجة ويتأذى كثيراً
وعندما يتكرر الأمر قد يستسلم ببساطة.
يصبح الأطفال بدون التنظيم المشترك غير منظمين (Dysregulated) مثلاً التصرف بانفعال وعدوانية أو تبني استراتيجيات تأقلم غير قادرة على التكيف، مثلاً قمع العاطفة الذي سيؤدي بدوره إلى مشاكل داخلية مثل الاكتئاب.
تقنيات قبل بدء عملية التنظيم العاطفي المشترك
لتطبيق تقنيات التنظيم المشترك الفعالة والمتسقة، إليك بعض التقنيات التي لا بد من الانتباه لها وهي ما يلي.
أولاً: التنظيم الذاتي (SELF-REGULATE)
يجب أن يكون الآباء قادرين على التنظيم الذاتي قبل أن يتمكنوا من التنظيم المشترك. يعد التنظيم الذاتي لمقدمي الرعاية بمثابة نموذج يوضح كيفية التحكم في عواطفهم تجاه الطفل.
فقد يكون من الصعب جداً التعامل مع طفل غير عقلاني يصرخ أثناء نوبات الضيق الحاد، خاصة إذا كان الموقف قد أثار مشاعر كبيرة بداخلك.
هنا حاول تهدئة نفسك بأخذ نفس عميق وتصفية ذهنك واستخدام الحديث الإيجابي مع النفس. وانتبه إلى أن تجاربك السابقة وأفكارك ومعتقداتك حول العواطف لأنها ستؤثر بشكل كبير على كيفية إدارة عواطفك بشكل جيد.
وإن أصبح الموضوع صعباً عليك، لا تتردد في طلب المساعدة. إذ يمكن لأخصائي الصحة العقلية مساعدتك في تحديد وحل المشكلات التي لم يتم حلها والتي قد تكون سبباً يمنعك من أن تكون والداً هادئاً ومهتماً.
ثانياً: لا تعاقب
إن فرض عقوبة على المشاعر السلبية ضار بشكل خاص، لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تفاقم المشاعر السلبية في موقف صعب بالفعل، بالنهاية نحن لا نستطيع التحكم بمشاعرنا.
علاوةً على أن تلك العقوبة ستقلل من تقبل الأطفال للتواصل، فإنها ستمنعهم من تلقي التنظيم المشترك من مقدم رعاية داعم ومهتم.
ثالثاً: عدم دحض المشاعر
لا تتجاهل أو تنبذ المشاعر السلبية وترفضها، بسبب ارتباط مشاعر الإبطال (Invalidation) [وهي الرفض الصريح أو الضمني لمشاعر فرد آخر والتقليل من أهميتها وتجاهلها] لدى الطفل بشكل وثيق بالمشكلات الاجتماعية والعاطفية والأذى النفسي.
رابعاً: التربية الأبوية التفاعلية
التشجيع على تطوير التنظيم الذاتي عبر التواصل الدافئ والمتجاوب يعزز من الارتباط الآمن لدى الأطفال.
يدرك الآباء سريعي الاستجابة تلميحات الأطفال التي تشير إلى احتياجاتهم ويستجيبون لها. ومن خلال التفاعلات القائمة على الرعاية، يقومون بدعم ونمذجة التنظيم المشترك وذلك لتسهيل قدرة الأطفال على فهم المشاعر والتعبير عنها وتعديلها.
يُقبِل الأطفال ممن لديهم ارتباط آمن على استيعاب استراتيجيات التنظيم داخل علاقات الارتباط الخاصة بهم ويطبقونها خارج علاقات الارتباط الخاصة بهم.
خامساً: كيفية تطبيق التنظيم المشترك
تتغير خلال مرحلة النمو خبرات التنظيم المشترك لدى الطفل تباعاً مع نمو قدرته على التنظيم الذاتي، لكنها على الرغم من ذلك تظل مورداً بالغ الأهمية.
إذ أن الاستجابات التنظيمية المشتركة تلعب دوراً مهماً في دعم التجارب العاطفية للطفل وتوجيهه نحو استراتيجيات التنظيم الذاتي المتطورة بشكل متزايد.
فيما يلي المراحل التي يمر بها الطفل وما يتوجب عليك فعله ضمن كل واحدة منها.
الرضيع (INFANCY)، منذ الولادة حتى عمر السنة
انتبه جيداً خلال هذه المرحلة واستجب بسرعة للتلميحات التي يرسلها طفلك، قم بتهدئة الرضيع جسدياً (كالعناق) وعاطفياً (مثل التحدث) وذلك في سبيل مساعدته على تحقيق التوازن والاستقرار.
يمكن أيضاً التقليل من شعور الضيق عن طريق إضافة تعديل على البيئة المحيطة.
فترة الطفولة (TODDLERHOOD)، بداية المشي أي من عمر السنة إلى السنتين
تحدث بهدوء أو أبعد الطفل عن المواقف المجهدة وعلمه كلمات تساعده في التعبير عن مشاعره والتحدث عنها.
سن ما قبل المدرسة (PRESCHOOL-AGED)، من ثلاث إلى خمس سنوات
علمه خلال هذا السن على استراتيجيات التنظيم الذاتي مثل أخذ نفس عميق مثل التنفس أثناء التأمل وطبق هذه الاستراتيجيات أيضاً. دربه عاطفياً من أجل تزويده بالقدرة على التعرف على مشاعره وسميتها والتعبير عنها بالكلمات. وأيضاً قم بتعليمه مهارات حل المشكلات البسيطة من خلال اقتراح الخيارات المتاحة.
مرحلة الطفولة المتوسطة (MIDDLE CHILDHOOD)، من سن السادسة حتى العاشرة
شجع خلال هذه المرحلة عليك القيام بمزيد من مهارات حل المشكلات وعلمه استراتيجيات حل النزاعات، إضافةً إلى ذلك استمر في تدريبه على مهارات ضبط المشاعر مثل إعادة تقييم الموقف.
مرحلة المراهقة المبكرة (EARLY ADOLESCENCE)، من أحد عشر عاماً إلى الرابعة عشر
في هذه المرحلة يجب أن يتعلم الطفل مهارات حل المشكلات والتنظيم وإدارة الوقت للوقاية من المشكلات. كما يجب تدريبه على التعامل مع الإجهاد بطريقة صحية، مثل ممارسة الرياضة والتأمل، إضافةً إلى تعليمه التفكير النقدي حتى يتمكن من اتخاذ قرارات أفضل.
من أواخر مرحلة المراهقة إلى سن الرشد (LATE ADOLESCENCE TO ADULTHOOD)
في هذه المرحلة، تُفسح التفاعلات التنظيمية المشتركة المجال لمهارات التنظيم الذاتي المستجدة والناشئة لدى الطفل، إذ سيتولى الطفل معظم مهام التنظيم.
أما الآباء فيتلخص دورهم في المقام الأول بتقديم التوجيه للمشاكل المعقدة والدعم العاطفي في التعامل مع الضغوطات الكبيرة والذي سيكون بمثابة قاعدة آمنة للطفل وملاذ آمن له.
اقرأ أيضاً: تدريب العواطف وأهميته في تطوير التنظيم العاطفي لدى الأطفال
اقرأ أيضاً: التفكير النقدي للأطفال، ما أهميته وكيف يمكن تعليمه للأطفال؟
اقرأ أيضاً: التوكيد العاطفي للأطفال، أهميته لنمو الطفل وصحته النفسية
المصدر: How Co-regulation with Parents Develops into Self-Regulation in Children
تدقيق: هبة محمد
تحرير: جعفر ملحم