بينما تقرأ هذه المقالة، قد تسمع الكلمات “تُنطَق” في رأسك وكأن شخصاً يقرأ لك، هذا الصوت الصغير هو “المونولوج الداخلي” الخاص بك، والذي يشار إليه باسم “الصوت الداخلي”، “الكلام الداخلي” أو “الحديث الذاتي“.
لكن، يبدو أنّ هذا الصوت ليس موجوداً لدى الجميع. وعلاوة على ذلك، أظهرت الأبحاث أن هناك قدراً كبيراً من الاختلاف في عدد المرات التي يختبر فيها الأشخاص ممن لديهم مونولوج داخلي هذا الصوت.
ما هو المونولوج الداخلي؟
- تتضمن تجربة الكثيرين للمونولوج الداخلي (Inner Monologue) وجود سمة لفظية. إذ يستخدم هذا المونولوج اللغة ولكن لا يحتاج الفرد لتحريك فمه أو لأن يسمعه أحد لتشكيل الكلمات التي تكون مركزية في المونولوج. هذا الحديث الخاص موجه لأنفسنا فقط (التحدث مع النفس). وهو شيء يبدو الفرد وكأنه “يسمعه” بشكل كامل مع النغمة والنبرة رغم أنه ليس مسموعاً فعلياً.
يطور الأطفال عادة مونولوجاً داخلياً في سن الثانية أو الثالثة بالتزامن مع تطور اللغة التعبيرية، وهي القدرة على توصيل الأفكار والرغبات من خلال الوسائل اللفظية وغير اللفظية.
أشارت الأبحاث إلى وجود ثلاثة أبعاد للمونولوج الداخلي:
- التكثيف (Condensation) أو مدى كون الحديث الداخلي مقتضباً أو مطولاً: في بعض الحالات، قد يكون الصوت الداخلي للفرد وصفياً وثرثاراً يرافقه حديث ذاتي يتضمن جملاً وفقرات كاملة. بينما قد يستخدم كلمة واحدة فقط أو أجزاء من جملة في حالات أخرى.
- الحوارية (Dialogality) أو ما إذا كنت تفكر بصوت واحد أو أصوات متعددة: في بعض الأحيان قد نسمع صوتاً واحداً فقط في رؤوسنا. مثلاً عندما نشجع أنفسنا قبل القيام بمهمة صعبة أو نخبرها بأشياء نحتاج إلى تذكرها. لكن في أوقات أخرى، قد تراودنا أصوات متعددة، مثلاً عندما نتوقع محادثات مستقبلية من خلال تخيل ما سنقوله نحن والشخص الآخر. أو عندما يدور داخل رؤوسنا نقاشٌ ما نفكر فيه في عدة وجهات نظر مختلفة في وقت واحد.
- القصد (Intentionality) أو ما إذا كنت تستخدم حديثك الداخلي عن عمد أم لا: في بعض الحالات، ومثلاً عندما نريد التدرب على عرض تقديمي قادم، قد نوظف الحديث الداخلي عن قصد. ومع ذلك، ففي بعض الحالات الأخرى، عندما تدور في أذهاننا بعض الأسئلة، قد يتنشط المونولوج الداخلي على الرغم من أننا لم نتخذ قراراً واعياً باستخدامه.
ما مدى انتشار المونولـوج الداخلي (التحدث مع النفس)؟
من الصعب للغاية دراسة المونولوجات الداخلية، فأولاً وأخيراً، لا يمكن لأحد أن يغوص في عقل شخص آخر ويرى بماذا وكيف يفكر بالضبط. نتيجة لذلك، ابتكر الباحثون طرقاً مختلفة لدراسة المونولوجات الداخلية.
تضمنت بعض هذه الدراسات استبيانات التقارير الذاتية وأخذ عينات التجارب. حيث يُطلب من المشاركين في البحث الاحتفاظ بمذكرات أو المشاركة في المقابلات من أجل تقديم بيانات مفتوحة حول تجاربهم الداخلية.
غالباً ما يتم استخدام طريقة عينات التجربة التي تسمى عينات التجربة الوصفية في دراسات الكلام الداخلي. طور هذا الأسلوب من قبل أستاذ علم النفس راسل هولبرت (Russell Hurlburt) ويتطلب من المشاركين في البحث الإفادة بتجربتهم الداخلية في أوقات عشوائية طوال اليوم.
نظراً لأن هذه الطرق المختلفة لتقصي المونولوجات الداخلية أدت إلى نتائج غير متسقة، توصل الباحثون إلى إجابات مختلفة عن مسألة مدى انتشار المونولوجات الداخلية بالفعل. فقد اقترح بعض العلماء أن كل شخص لديه مونولوج داخلي وأنه لا يتوقف أبداً خلال ساعات استيقاظه.
في المقابل، يفترض آخرون أن بعض الناس يفتقرون للمونولوج الداخلي. ويشيرون إلى أن الأشخاص الذين لديهم مونولوج داخلي حتى يختلفون على نطاق واسع في مدى تكراره طوال اليوم.
فمثلاً، يقدر هولبرت أن ما بين 30% و50% من الأشخاص يختبرون المونولوج الداخلي بشكل متكرر. وقد أشار بحثه باستخدام طريقة أخذ عينات التجربة الوصفية إلى أن معظم الأشخاص لا يختبرون المونولوج الداخلي طوال الوقت. وقد تمر أجزاء كبيرة من يومهم دون ذلك أبداً.
من ناحية أخرى، خلص الباحثون الذين استخدموا أساليب بحث مختلفة إلى أن تواتر الكلام الداخلي أعلى بكثير. إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن الناس يختبرونه بمعدل 75% من الوقت.
كيف يفكر الناس دون مونولـوج داخلي؟
بالنسبة لأولئك الذين لديهم مونولوج داخلي، قد يكون من الصعب عليهم فهم كيف يفكر الناس دون سماع صوت داخلي. رغم ذلك، أظهرت الأبحاث أن الناس يفكرون عموماً من خلال خمس طرق مختلفة، واحدة منها فقط تتضمن مونولوجاً داخلياً.
طرق التفكير هذه هي:
- الحديث الداخلي: مونولوجنا الداخلي الذي نقول فيه الكلمات في أذهاننا.
- الرؤية الداخلية: تخيل صورة في أذهاننا لا تتطابق مع ما نراه في الواقع، فمثلاً، قد تستحضر صورة لمكان تريد قضاء إجازة فيه.
- التفكير اللارمزي: هو التفكير دون استخدام أي كلمة أو صورة أو غيرها من الأساليب الرمزية للتواصل. مثلاً، قد تنظف أسنانك بالفرشاة دون تصور واع للطريقة أو إخبار نفسك بإكمال كل خطوة.
- الشعور: تفكر في عواطفك بوعي تام. مثلاً، الاعتراف بشعورك بسعادة غامرة بعد تلقي أخبار جيدة.
- الوعي الحسي: تفكر في أحد الجوانب الحسية للبيئة مع عدم التفكير بالجوانب الأخرى. مثلاً، في يوم عاصف، قد تشعر بالرياح والطريقة التي تتلاعب فيها بملابسك بقوة. ولكن بدلاً من التفكير في تلك الأشياء، قد تركز على شعور الهواء يقطّع يديك.
قد يفكر بعض الناس في هذه الطرق الخمسة، بينما يقتصر البعض الآخر على واحدة أو اثنتين. ونتيجة لذلك، فمن المحتمل أن يفكر الأشخاص الذين ليس لديهم مونولوج داخلي بطريقة أو أكثر من الطرق الأربعة التي لا تتضمن كلاماً داخلياً.
لماذا يفتقر بعض الناس إلى المونولوج الداخلي؟
لا يزال البحث عن سبب افتقار بعض الناس إلى المونولوج الداخلي (الحديث الذاتي) في مهده. وبالتالي لا توجد إجابات قاطعة على السؤال عن سبب عدم تجربة بعض الأشخاص لهذا الأمر. وجدت إحدى الدراسات أن الأشخاص الذين يعانون من الأفانتازيا، وهو عدم قدرة الفرد على رؤية الصور المرئية في ذهنه، تكون المونولوجات الداخلية لديهم ضعيفة أو غائبة تماماً، والتي أطلق عليها الباحثون اسم “anauralia”.
كان العكس صحيحاً أيضاً، إذ يميل الأشخاص الذين يمكنهم استحضار صور بصرية حية إلى تجربة مونولوج داخلي حي أيضاً. رغم ذلك، يجب إجراء المزيد من الأبحاث لفهم سبب تأثير عدم القدرة على رؤية الصور المرئية على ما إذا كان المرء لديه مونولوج داخلي والعكس.
إيجابيات وسلبيات المونولـوج الداخلي
وجد الباحثون أنّ المونولوج الداخلي (التحدث مع النفس) له فوائد في مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك التخطيط، حل المشكلات، التنظيم الذاتي، التأمل الذاتي، تنظيم المشاعر والأخذ بمنظور الآخرين. وقد يكون المونولوج الداخلي للفرد مصدراً للتحفيز، التعليمات والتعزيز الذاتي الإيجابي.
من ناحية أخرى، وبالنسبة لبعض الناس، النقد الذاتي هو سمة معتادة من سمات المونولوج الداخلي. ويعد ذلك أحد العيوب الكبيرة له، وقد وجدت الدراسات أن الحديث الذاتي الناقد يرتبط بانخفاض تقدير الذات وعبارات سلبية تلقائية عن الذات أكثر تواتراً.
تحمل طرق التفكير الأخرى التي لا تتضمن مونولوجاً داخلياً، الموضحة أعلاه، فوائد وعيوباً أيضاً، ولكن المزيد من البحث ضروري لفهم ماهيتها.
اقرأ أيضاً: تدريب التحفيز الذاتي، تقنياته فوائده وفعاليته
اقرأ أيضاً: الحديث الذاتي السلبي مع النفس وآثاره على الصحة النفسية
اقرأ أيضاً: الحديث الذاتي الإيجابي للأطفال، أهميته وكيفية تعليمه للأطفال
المصدر: ?Does Everyone Have an Inner Monologue
تدقيق: هبة مسعود
تحرير: جعفر ملحم