سيكولوجية الجريمة، العوامل الاجتماعية، النفسية والبيولوجية المساهمة في السلوك الإجرامي

خدماتنا النفسية والإرشادية
Clear Filters
استشارة مجانية للسوريين
الاستشارة النفسية الطبية
العلاج النفسي
الإرشاد التربوي
الإرشاد الاجتماعي
الإرشاد النفسي

عندما تكون الجريمة هي حقاً نتاج الاختيار العقلاني، يكون مرتكب الجريمة قد ارتكب الفعل لتحقيق مكاسب أو إرضاء شخصي. سلوك الإجرام، سواء كان المجرم ذكراً أم أنثى، هو تحت سيطرة الشخص الكاملة، ولكن كيف وإلى أي درجة يمكن لعوامل أخرى أن تتدخل في قدرته على ممارسة الإرادة الحرة وتنال منها؟

جاءت الإجابة على هذا السؤال على شكل نظريات لا حصر لها. كل منها يهدف إلى تفسير السلوك الإجرامي من حيث عوامل محددة.

بشكل عام، تنطوي نظريات السلوك الإجرامي على ثلاث فئات من العوامل: النفسية والبيولوجية والاجتماعية. في الواقع، السلوك البشري هو نتاج تفاعلات معقدة بين العديد من العوامل، وبدلاً من تقديم ملخص لنظريات لا تعد ولا تحصى، يركز هذا المقال على العوامل الرئيسية التي تشارك في التعبير عن السلوكيات الإجرامية وقمعها.

العوامل الاجتماعية المساهمة في السلوك الإجرامي

هناك الكثير من المؤلفات الجنائية التي تحدد مجموعة واسعة من العوامل البيئية باعتبارها مرتبطة سببياً بالسلوك الإجرامي. وتشمل هذه العوامل التطورية والاجتماعية والاقتصادية.

فعلى سبيل المثال، كثيراً ما يُستشهد بالفقر كحالة اجتماعية اقتصادية مرتبطة بالجريمة. فالإجهاد والضغط والإحباط الذي يعاني منه من يفتقرون إلى الموارد المالية اللازمة لتلبية احتياجاتهم ورغباتهم من خلال وسائل مشروعة، يجعلونهم أكثر ميلاً إلى ارتكاب الجريمة. مقارنةً بالأثرياء الذين يمكنهم الوصول بسهولة إلى وسائل كسب مشروعة. 

يشكل سوء التغذية جانباً مقلقاً من جوانب الفقر بشكل خاص. إذ يمكن أن يؤدي نقص التغذية إلى حدوث مشاكل أو تفاقمها مثل صعوبات التعلم وضعف السيطرة على الاندفاعات. وقد حُددت مثل هذه الاختلالات الوظيفية المعرفية على أنها نذير للانحراف وإجرام البالغين. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

وهكذا، فإن وضع المرء في البنية الاجتماعية للمجتمع بالطريقة التي يتم تفعيله بواسطة متغيرات مثل مستوى الدخل، يمكن أن يكون عاملاً كبيراً مساهماً في الأنشطة الإجرامية لبعض الأفراد بسبب تأثيره على وظيفة الدماغ.

الجو الأسري قد يلعب دوراً أيضاً

النشأة في بيت يشيع فيه العنف من جانب الوالدين يمكن أن تشكل سلوكاً لدى الأطفال بحيث يجعلهم أكثر عرضة للاستجابة لمشاكلهم الخاصة من خلال وسائل العنف. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

ومع أن العدوانية والعنف ليسا مترادفين، إلا أن الارتباط بينهما أمر لا يمكن إنكاره. أظهر عالِم النفس ألبرت باندورا (Albert Bandura) أهمية التعلم الاجتماعي في تطوير السلوك العدواني. 

قد يعمل وجود قدوة عنيفة كمحفز للعوامل النفسية والبيولوجية الموجودة مسبقاً التي تجعل هذا الفرد عرضة للسلوك العدواني. وهذا قد يفسر لماذا أن واحداً فقط من البنين الذين اعتدى والدهم على والدتهما يضرب زوجته عندما يكبر.

وكانت هناك عوامل إضافية جعلته أكثر سهولة في التأثر بالنموذج العنيف. أو بالعكس، كان الابن الآخر غير العنيف مقاوماً للتأثير بحكم عوامل “وقائية” فردية، مثل ارتفاع معدل حاصل الذكاء.

دور التنمر والإهمال في مرحلة الطفولة

هناك الكثير من الأدبيات حول “دورة العنف” حيث يكون ضحايا الإساءة والإهمال في مرحلة الطفولة ميالين للانخراط في سلوك عنيف في مرحلة البلوغ. وبالتالي تمرير العنف من جيل إلى آخر. وقد فحصت أبحاث أخرى آثار التنمر خلال سنوات التكوين ووجدت أن الضحايا يصبحون بدورهم معتدين. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

وجدت التجارب على الحيوانات، أن التعرض لظروف التهديد الذي لا مفر منه يغير مواد كيميائية معينة في الدماغ تشارك في العدوانية وكبح جماحها. مما أدى إلى إظهار الحيوانات التي انصاعت سابقاً عدوانيةً غير مناسبة ومفرطة، ومهاجمة الحيوانات الأصغر والأضعف كلما وُجدت معها. 

من حيث الجوهر، يصبحون هم “المتنمرون” وعلى هذا فإن التغير في البيئة ـ التعرض لتهديد لا مفر منه ـ  يؤدي إلى تغيرات في البيولوجيا، الأمر الذي يقود إلى تغيرات في السلوك.

وتكشف الدراسات التجريبية حول آثار سوء معاملة الأطفال أنه بالإضافة إلى المشاكل النفسية. قد يحدث تلف بنيوي ووظيفيّ حقيقي في الدماغ النامي.

يمكن أن تكون هذه التأثيرات البيولوجية العصبية آلية تكيفية للعيش في تلك البيئة الخطرة. وبغض النظر عن ذلك، فإنها تميل إلى تعريض وتهيئة الفرد لمجموعة من الحالات النفسية، والسلوكيات العدوانية، والأمراض المرتبطة بالتوتر. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

ويبدو أن الأطفال المرنين القادرين على التكيف، الذين يُطلق عليهم هذا الاسم بسبب قدرتهم على النمو في ظل ظروف عالية الخطورة. ويتمتعون بقدرات إدراكية (لا سيما ذكاء لفظي عالي) تمكّنهم من التكيف مع بيئتهم المجهدة.

وقد يكشف فهم الآليات التي تستند إليها القدرة على التكيف عن أوجه القصور في أولئك الذين يستسلمون للآثار الضارة الناجمة عن طفولتهم المحرومة أو المسيئة لهم، ونتيجة لذلك غالباً ما يصبحون جانحين ومجرمين. 

تأثير التركيب النفسي والبيولوجي للفرد

طبعاً، غالبية الفقراء ليسوا مجرمين، ومعظم الذين ينشؤون في بيوت تسيء معاملتهم أو يتعرضون للتنمر لا يصبحون مجرمين. ما يثير السؤال التالي: ماذا لدى مرتكبي الجرائم يميّزهم عن الآخرين الذين يمرون بظروف مماثلة ولكنهم يطيعون القانون؟ وعلاوة على ذلك، لماذا يرتكب الأفراد الذين لا يعانون من مثل هذه الشدائد الجريمة؟

الإجابة على هذه الأسئلة هي أن العوامل الاجتماعية تؤثر على مختلف الأشخاص بشكل متباين.

إلى حد كبير، التركيب النفسي والبيولوجي للفرد هو الذي يحدد كيف وإلى أي مدى تؤثر القوى الخارجية على سلوكه، إذ تتفاعل العوامل النفسية والبيولوجية لجعل الفرد أكثر أو أقل تأثراً بالظروف الاجتماعية السلبية.

ولا ينبغي أن يُفهم من ذلك التقليل من تأثير العوامل الاجتماعية على السلوك الإجرامي، لأن لها في الواقع دور هام، ولكن تسليط الضوء على حقيقة أن تأثيرها يعتمد على التركيب النفسي والبيولوجي للفرد. وفي نهاية المطاف، فإن الفرد هو الذي يتصرف، بشكل إجرامي أو غير ذلك. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

العوامل النفسية التي تساهم في السلوك الإجرامي

بموجب شرط النية الإجرامية، تهتم المحاكم الجنائية بالعناصر النفسية التي تكمن وراء السلوك الإجرامي. ومع ذلك، تعلّم البحوث أن سيكولوجية الجاني تنبع من ركيزة بيولوجية. وأن الحالة النفسية للفرد تؤثر على جوانب متعددة من تركيبته البيولوجية.

بين العقل والدماغ اتصال يتعذر محوه، وتتضمن الحالة النفسية أو العقلية للفرد -سواء في مسرح الجريمة أو في قاعة المحكمة- آليات بيولوجية.

يشكل علم نفس المرض، دراسة الأمراض والاضطرابات النفسية مجالاً رئيسياً للتحضير لعالم النفس الشرعي.

في حين أن الغالبية العظمى من الأفراد الذين يعانون من الاضطراب النفسي لا يرتكبون جرائم، تشير التقديرات إلى أن معدلات الاضطراب النفسي الخطير بين نزلاء السجون هي ثلاثة إلى أربعة أضعاف ما هي عليه بالنسبة لعامة السكان.

وعلى الرغم من أن هذا لا يمكن اعتباره بشكل أعمى أنه يعني أن جرائم السجناء المضطربين نفسياً كانت بسبب مرضهم النفسي. أو أن الاضطراب النفسي كان سائداً قبل حبسهم، إلا أن أعدادهم غير المتناسبة بالنسبة إلى عامة السكان تضفي أهمية على الاضطراب النفسي كعامل مساهم في السلوك الإجرامي. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

العلاقة بين السلوك الإجرامي والاضطراب النفسي

إن العلاقة بين السلوك الإجرامي والاضطراب النفسي معقدة، إذ يُعتبر الأفراد الذين يعانون من تصورات خاطئة (أي من الهلوسة مثل سماع أصوات لا أساس لها في الواقع الموضوعي.) و/أو لديهم معتقدات خاطئة (أي يعانون من أوهام مثل “الناس في الخارج يحاولون قتلي”.) مصابين باضطراب نفسي رئيسي أو ذهان.

وقد ربطت أبحاث حديثة بين الفصام مع تزايد خطر ارتكاب جرائم عنف عادة ضد أشخاص مهمين في حياة المجرمين. (وليس الغرباء الذين نصادفهم بكل عشوائي وتصوّرهم لنا وسائل الإعلام الشعبية).

في حين أنه من المفهوم كيف يمكن لشخص غير متصل بالواقع أن يؤذي شخصاً آخر نتيجة لذلك (.على سبيل المثال، من خلال التوهم بأن لديه مهمة إلهية لتطهير الشوارع من الأذى عبر قتل الأشخاص المشردين). إلا أن غالبية الأفراد المصابين بالذهان لا يرتكبون جرائم.  سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

نتائج الأبحاث

يكشف البحث في الهلوسات لدى مرضى الفصام أن أساس تصوراتهم الخاطئة هو خلل وظيفي في الدماغ. على سبيل المثال، يتزامن حدوث الهلوسات السمعية مع إطلاق الخلايا العصبية في مناطق الدماغ التي تشارك عادة في معالجة الصوت – ولكن في هذه الحالة في غياب الصوت.

بدلاً من طرح السؤال الغامض، “لماذا يسمع مريض الفصام  أصواتاً؟” نحن الآن في وضع التساؤل عن سبب فشل إطلاق الخلايا العصبية في مناطق معينة من الدماغ في غياب المحفزات الخارجية.

وبالتالي، فإن الدافع وراء العنف لدى الشخص المصاب بالفصام -عندما يهاجم لأن الأصوات تقول أن الشخص الآخر ينوي الأذى – يبدو أنه ينشأ من نشاط عصبي غير طبيعي. 

والواقع أن أغلب الاضطرابات النفسية المعترف بها حالياً من قِبَل الأطباء والباحثين لا تعتبر ذهانية. بل هي اضطرابات في الشخصية، وتحكّم في الانفعالات وما شابه ذلك. 

يظهر الاعتلال النفسي (السيكوباتية)، وهو شكل من أشكال اضطراب الشخصية، كمجموعة محددة من السلوكيات العاطفية، الشخصية والاجتماعية المنحرفة. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

على الرغم من أن مرضى الاعتلال النفسي لا يشكلون سوى حوالي 1% من عامة السكان. إلا أن التقديرات تشير إلى أن حوالي 25% من نزلاء السجون هم مرضى اعتلال نفسي. فطبيعة اضطرابهم المتمثلة في الافتقار للندم على تصرفاتهم المعادية للمجتمع وعدم التعاطف مع الذين ينتهكون حقوقهم تجعلهم ملائمين جداً للنشاط الإجرامي.

دور العوامل الوراثية والقدرات الإدراكية في السلوك الإجرامي

وفي حين أن معظم مرضى الاعتلال النفسي ليسوا مجرمين (ومع ذلك يتصرفون بطرق تتجاهل الآخرين). فإن معدلات معاودة الإجرام لدى أولئك الذين يتصرفون كذلك تميل إلى أن تكون أعلى بكثير منها لدى المجرمين غير السيكوباتيين. 

على الرغم من أن السيكوباتيين ليسوا مصابين بالذهان، إلا أن الآليات البيولوجية العصبية التي تنقل العاطفة إلى الإدراكات والأفكار والمواقف تبدو مختلّة وظيفياً عند السيكوباتيين. 

ويشير عالم النفس روبرت هير (Robert Hare) إلى أنه في حين تحدد العوامل الوراثية (والعوامل البيولوجية الأخرى) بنية الشخصية الشاذة. إلا أن البيئة قد تشكل كيفية التعبير عن الاضطراب على شكل سلوك. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

وقد حدد التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني والتصوير المقطعي بالإصدار الفوتونيّ الأحادي عدداً من المناطق المعينة في أدمغة مرضى الاعتلال النفسي العنيفين التي لا تعمل بشكل طبيعي.

على وجه الخصوص، يبدو أن قشرة الفص الجبهي. وهي جزء من الفص الجبهي في الدماغ مسؤولة إلى حد كبير عن اتخاذ القرار العقلاني والتحكم في الاندفاع تعمل بشكل ناقص. مما يجعلها غير قادرة على إدارة الدوافع العاطفية بشكل فعال؛ والنتيجة هي السلوكيات المندفعة، بما في ذلك الجرائم.

أياً كانت طريقة تعريف القدرات الإدراكية، فمن المؤكد أن لها دوراً رئيسياً في السلوك الإجرامي. حين استخدمت الأبحاث معدل حاصل الذكاء كمقياس للذكاء، حصل المجرمون على درجات أقل من الأناس غير المجرمين إلى حد كبير. 

الضعف الذهني وتأخير إشباع الرغبات

عادةً، يواجه الأفراد من ذوي القدرة الفكرية المنخفضة صعوبة في تأخير إشباع رغباتهم، و في كبح دوافعهم، وتقدير السبل البديلة للحصول على ما يريدون.

ومع وجود هذا الضعف الذهني الكبير، فإنهم يميلون إلى أن يكونوا أقل قدرة على منع إلحاق الضرر. لأنهم يفتقرون إلى تقدير مدى خطأ سلوكهم. على الرغم من أن البيئة يمكن أن تسهل أو تثبط تطوير والتعبير عن القدرات المعرفية للفرد، تشير البحوث إلى أن هذه القدرات تحمل عنصراً وراثياً جوهرياً.

يحمل مفهوم الذكاء العاطفي وعوداً كبيرة لفهمٍ أكثر شمولية للإجرام المزمن. فالأشخاص ذوو الذكاء العاطفي المنخفض – الذين يفتقرون إلى البصيرة في سلوكهم والتعاطف مع الآخرين – هم أقل قدرة على كبح انتهاك حقوق الآخرين. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

وقد تم ربط الإصابات في قشرة الفص الجبهي (البطني) بظهور سلوك متهور و معادٍ للمجتمع (بما في ذلك العنف) دون ندم. مما يشير إلى أن بوصلتنا الأخلاقية متأصلة في وظائف محددة للفص الجبهي والتي تكون مختلة عند المجرم المزمن. 

ما تم إهماله كثيراً في الأدبيات السائدة حول السلوك الإجرامي هو آثار الأحداث الصادمة في مرحلة الطفولة المبكرة من منظور التحليل النفسي. 

دور العوامل العصبية وتأثير أنماط الشخصية على السلوك الإجرامي

توفر لنا تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين إعادة صياغة بنيات فرويد كعوامل عصبية بيولوجية محددة. فقد يتوافق الـ هُوْ ( كما أطلق عليها فرويد id)، المسؤول عن توليد الدوافع اللاواعية والبدائية، مع الجهاز الحوفي الذي يتضمن بنى الدماغ المشاركة في العواطف الأساسية، الدافع، والذاكرة.

الجانب من الشخصية الذي أشار إليه سيغموند فرويد بـ الأنا يتوسط في مطالب الـ”هُو” المرتكزة على الذات. وتتطور الأنا في الطفولة وتؤسس الفرد في الواقع. ويكون هذا الجانب العقلاني من الشخصية هو الذي يتفاوض مع الـ هو العاطفي و المندفع.  سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

أما عن الأنا العليا لدى فرويد، فإن الجانب الأخلاقي للشخصية قد “يستقر”، ولو جزئياً على الأقل، في قشرة الفص الجبهي البطني. ينبع السلوك القاسي المعادي للمجتمع من ضرر في هذه المنطقة من الدماغ.

لا تحتاج إعادة النظر في البنيات الفرويدية بهذه الطريقة إلى نفي صحتها. لأن العقيدة الأساسية (أي ربط العيوب في الشخصية مع الصدمات المبكرة) تبقى صحيحة. وبدلاً من ذلك، فإن التفسير البيولوجي العصبي لعمليات التحليل النفسي يوفر لها شيئاً افتقرت إليه سابقاً. ألا وهو القدرة على التحقق من صحة شيء ما تجريبياً.

وبينما نشير إلى الحالات النفسية المضطربة أو العقل المريض. غالباً ما يتم التقليل من شأن العمليات العصبية البيولوجية التي تكمن وراءها. وأياً كانت المشكلة النفسية، فلم يعد بوسعنا أن نتحدث عن العوامل النفسية المرتبطة بالسلوك الإجرامي من دون أن نناقش أيضاً العوامل البيولوجية. في نفس الجملة تقريباً. 

العوامل البيولوجية المساهمة في السلوك الإجرامي

تتوسط العمليات البيولوجية في العوامل الاجتماعية والنفسية العديدة والمتنوعة التي تزيد من خطر السلوك الإجرامي.

النظام الغذائي المناسب ضروري لوظيفة الدماغ المثلى. على سبيل المثال، تُفكّك الكربوهيدرات المعقدة لصنع الجلوكوز، الوقود الأساسي للدماغ. وتشارك العديد من العناصر الغذائية في تحويل الجلوكوز إلى طاقة.

بالتالي فإن النقص في أيّ من هذه المواد المغذية الأساسية يهتك بوظيفة الدماغ بسبب خفض الطاقة المتاحة. يتطلب الفص الجبهي في الدماغ، المسؤول عن التفكير العقلاني، وتنظيم السلوك. وضبط الدوافع العاطفية حوالي ضعف الطاقة التي تحتاجها المناطق الأكثر بدائية. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

إذا نضبت مستويات الطاقة، فإن الوظائف العليا تصبح مختلة تاركةً نشاط الدماغ المنخفض غير مكبوح. بشكل فعال، عواطفنا سيكون أمامها طريق سالك معنا.

هناك حاجة إلى عناصر غذائية محددة لتوليف الناقلات العصبية أبعد من احتياجات الطاقة الأساسية. وعلى هذا، فمن المفهوم كيف يؤدي سوء التغذية إلى إضعاف الوظيفة الإدراكية، وبالتالي تسهيل السلوكيات المعادية للمجتمع والعدوانية. 

ومن بين الأمراض التي تم تشخيصها والمرتبطة بالسلوك العنيف، تحتل إساءة استخدام المواد المخدرة المرتبة الأعلى. إذ تظهر تأثيرات الكحول المثبطة في تقارير الشرطة – وهي مليئة بالروايات عن العنف المنزلي، تزايد الاعتداء، القتل، والاغتصاب تحت تأثير الكحول. 

تأثير تعاطي المواد المخدرة على السلوك الإجرامي

تعاطي المخدرات له تأثير ضار بشكل خاص على الأفراد الذين يعانون من اضطراب نفسي سابق. مما يؤدي إلى تفاقم الاختلال الوظيفي لديهم، ليس لأن الكحول يسبب سلوكاً عنيفاً. بل يبدو أنه يُشعل فتيل العنف في الأشخاص الذين يميلون بالفعل إلى التصرف بعنف بحكم عوامل أخرى.  سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

يمكن أن يؤدي التعرض للعوامل السامة في البيئة مثل المبيدات الحشرية والرصاص إلى تأخير أو إعاقة التطور الفكري للفرد وبالتالي التأثير على السلوك وتنظيمه.

وفي هذا الصدد، تلعب العوامل الماسخة (المشوّهة) – التي تؤثر في النمو الجنيني الطبيعي – دوراً مهماً جداً في إعداد بعض الأفراد لحياة الجريمة.

إن إرث العجز المعرفي والعواقب السلوكية الناجمة، على سبيل المثال، عن التعرض قبل الولادة للمخدرات والكحول، موثّقة بشكل جيد في المؤلفات التي تتناول الإجرام. 

تأثير الاختلال في أنظمة النواقل العصبية على السلوك الإجرامي

الناقلات العصبية هي المسؤولة عن توصيل النبضات الكهروكيميائية داخل وعبر مناطق الدماغ (وكذلك في جميع أنحاء الجسم). وقد ارتبطت العديد من الاضطرابات النفسية بالاختلالات في أنظمة الناقلات العصبية. يشارك السيروتونين في عدد من وظائف الدماغ، بما في ذلك تنظيم الحالات العاطفية. 

في التجارب المخبرية، أدى خفض مستويات السيروتونين إلى ظهور سلوك مندفع وعدواني. ولذلك فإن سوء المعاملة والإهمال في مرحلة الطفولة يمكن أن يؤديا إلى انخفاض دائم في مستويات السيروتونين. وهذه ملاحظة هامة لفهم أسباب العنف.

تعمل الهرمونات بنفس الطريقة التي تعمل بها الناقلات العصبية إلا أنها تنطلق في مجرى الدم وليس بين الخلايا العصبية. وقد تم ربط المستويات المرتفعة بشكل غير طبيعي من هرمون التستوستيرون – وهو هرمون جنسي مرتبط بدافع الهيمنة والمنافسة – بالعدوانية المفرطة. سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

وتشهد على هذا الأثر ظاهرة “الغضب النفسي” لدى بناة الأجسام الذين يستخدمون المنشطات ويظهرون عنفاً متطرفاً لا يمكن السيطرة عليه. إن مثل هذه الملاحظات، فضلاً عن أن الأبحاث حول هرمونات الإجهاد التي تربط، على سبيل المثال، بين انخفاض مستويات الكورتيزول اللعابي والعدوانية الشديدة والمستمرة. تبين أهمية المساهمات الهرمونية في السلوك الإجرامي. 

وقد ربطت الأبحاث بين موصلية الجلد (رد فعل الجلد)، ومعدل ضربات القلب، و نشاط الموجات الدماغية وبين انخفاض الإثارة للسلوك الإجرامي.

في الواقع، تم الإبلاغ عن هذه الحالات النفسية الفيزيولوجية لدى الأطفال الصغار. وأنذرت بالجنوح في وقت لاحق بدرجة عالية من الدقة. 

نتائج الدراسات

ما تشير إليه هذه الدراسات و الدراسات الآنفة الذكر هو أن أدمغة المجرمين المزمنين تعمل بشكل مختلف. ومع المضي في تحديد المزيد من العوامل المرتبطة بالسلوك الإجرامي، سنأخذ معنا سؤالاً بعينه، والإجابة عليه سوف تخلّف عواقب من شأنها أن تخلق الخوف والتفاؤل في آن واحد: إلى أي مدى يتم تحديد العوامل في السلوك الإجرامي وراثياً؟  سيكولوجية الجريمة في علم النفس تفسير السلوك الإجرامي.

تم تطبيق مجموعة متنوعة من المناهج – فحص التوائم و المتبنّين، و الشذوذ الكروموسومي (خلل الصبغيات). وتعدد أشكال الحمض النووي – لتقييم دور العوامل الوراثية في السلوك الإجرامي والعدواني.

ورغم أنه من غير المتوقع أن يتم اكتشاف “جين الجريمة”، فمن الواضح أن هناك جينات ترمز إلى كيميائيات عصبية محددة ترتبط بأنواع مختلفة من السلوك.

ولتوضيح ذلك، تم تحديد طفرة محددة – وإن كانت نادرة – في الجين الذي يحمل وصفةً لإنزيم معين معروف بأنه يؤثر على مستوى ناقلات عصبية معينة في الدماغ. وقد تم ربط هذا الخلل بالميل نحو العدوان المتهور والمفرط والعنف في كل رجال الأسرة الذين يحملون هذه الطفرة.

تدعم الدراسات في علم الوراثة السلوكي الادعاء بأن السلوك العدواني وراثي باعتدال. وتمنح السلوكيات العدوانية ميزة للذكور في الكائنات الحية لأنهم يتنافسون على الأراضي والوصول إلى الإناث. يرى علم النفس التطوري أن السمات العدوانية التي تزيد من نجاح التكاثر سوف تُنتقى وتُنقل عبر الأجيال المتعاقبة.

دور التنشئة الاجتماعية

يزعم عالم الرئيسيات رونالد نادلر (Ronald Nadler) أن العدوان الجنسي متأصل في الذخائر السلوكية للقردة الأوائل. وهي الحيوانات التي تعد من بين أقرب المجموعات البيولوجية التابعة لنا. 

فالذكور من البشر، كوظيفة من دافع الإنجاب لديهم، يميلون بشكل طبيعي إلى ممارسة الجنس مع أكبر عدد ممكن من الشركاء المختلفين. مما يزيد من احتمال بقاء الأنواع على قيد الحياة وكذلك انتقال جيناتها إلى الجيل التالي.

يرجع عدم إقدام معظم الذكور على الاغتصاب إلى حد كبير إلى تنشئتهم الاجتماعية. فالمغتصبون هم ذكور لم يتم تنشئتهم اجتماعياً بشكل فعال في هذا الصدد.

يمكننا أن نقدّر من خلال هذا المثال كيف يمكن لعوامل محددة من الخطر النفسي الاجتماعي (على سبيل المثال، انخفاض الذكاء.) أن تزيد من احتمال السلوك الإجرامي والعنيف؛ وفي هذه الحالة، الاغتصاب. 

يتعرض للهجوم التقليد العريق المتمثل في افتراض أن الجريمة هي نتيجة للإرادة. دون أن تُثقل كاهله عمليات نفسية أو بيولوجية شاذة. وفي النهاية، قد نجد أن تصور عالم النفس أدريان راين الجريء للإجرام باعتباره اضطراباً سريرياً هو الأكثر ملاءمة مع ما نتعلمه.

لكنّ تبني هذا الموقف يتطلب منا أن نعيد النظر في مفهومنا عن الجريمة والعقاب – والمعاملة. وإذا كان السلوك الإجرامي، أو على الأقل السلوك الإجرامي العنيف المتهور، مَرَضياً بطبيعته. فإن العواقب المترتبة عليه هائلة وبالتالي، فإن من الحكمة أن تمضي المحاكم بحذر في تحديد المسؤولية الجنائية (الجُرم). ومع تقدم أبحاث العلوم السلوكية والتكنولوجيا، فمن المرجح أن يكون الكمّ الكبير من البيانات، في نهاية المطاف، مقنعاً.

اقرأ أيضاً: سيكولوجية القاتل المتسلسل، الأسباب، الدوافع والخصائص الديموغرافية

اقـرأ أيضاً: سيكولوجيا الشرطة، دراسة مجال الشرطة من وجهة نظر علم النفس الشرعي

اقرأ أيـضاً: وحشية رجال الشرطة، تعريفها وأسبابها

المصدر: Criminal Behavior

تدقيق: هبة مسعود
مراجعة: أوبستان
تحرير: جعفر ملحم
خدماتنا النفسية والإرشادية
Clear Filters
استشارة مجانية للسوريين
الاستشارة النفسية الطبية
العلاج النفسي
الإرشاد التربوي
الإرشاد الاجتماعي
الإرشاد النفسي
Related Posts

مقالات ذات صلة

error: